هذا الخطأ الاستراتيجى الذى انزلقت إليه جماعة الإخوان المسلمين بترشيح المهندس خيرت الشاطر نائب المرشد العام لرئاسة الجمهورية.. هذا الخطأ ضربة قاصمة وجهتها الجماعة لنفسها بيديها.. لا بيد عمرو (ليس عمرو موسى).. أفقدتها مصداقيتها لدى الشارع بقدر ما أفقدتها تأييد الكثيرين ممن صوّتوا لصالح مرشحيها فى الانتخابات البرلمانية.. تعاطفاً معها لما تعرضت له من حظر وإقصاء واعتقالات طوال ستة عقود. لقد غاب عن جماعة الإخوان أن هذه الخطوة المفاجئة التى تنقض تعهداتها السابقة بالامتناع عن الترشيح لمنصب الرئيس.. لقد غاب عنها أنه من غير المقبول سياسياً وشعبياً أن يكون رئيس الجمهورية الإخوانى مرءوساً وخاضعاً لأوامر وتعليمات المرشد العام وفقاً لقاعدة السمع والطاعة وهو ما يعنى استنساخ النظام السياسى الإيرانى حيث يعد المرشد العام للثورة الإيرانية.. (خامنئى حاليا) هو الرئيس الأعلى للدولة الذى يعلو على رئيس الجمهورية وهو الأمر الذى يعنى أيضاً أن تتحول مصر إلى دولة دينية! مما يزيد من فداحة هذا الخطأ الاستراتيجى أنه جاء متزامناً مع أزمة تشكيل الجمعية التأسيسية لوضع الدستور والتى استحوذت الجماعة والتيار السلفى على غالبية أعضائها وبعد الإصرار على انتخاب نصف أعضائها من البرلمان ذاته، وهو التشكيل الذى فجّر الأزمة بعد رفض جميع القوى والتيارات السياسية ومؤسسات المجتمع المدنى بل أيضاً الأزهر الشريف والكنيسة لهذا التشكيل وانسحاب 25 عضوا من أصل مائة عضو من الجمعية، وهى الأزمة التى سوف تتسبب فى تعطيل وتأخير إصدار الدستور الجديد. *** من المؤكد أن جماعة الإخوان سوف تدفع ثمناً غالياً جراء هذين الخطأين وعلى النحو الذى سوف يؤثر سلباً على مستقبلها السياسى بعد أن فقدت الكثير من رصيدها، ولكن ما يعد مدعاة للقلق هو تداعيات ونتائج ذلك المسلك الإخوانى وما أحدثه من أزمة سياسية على العملية السياسية والديمقراطية برمتها، ومن ثم على إتمام إجراءات نقل السلطة من المجلس العسكرى إلى سلطة مدنية بنهاية شهر يونيو المقبل. لقد خسر المراهنون على ذكاء «الإخوان» السياسى رهانهم مثلما خسرت الجماعة ذاتها الكثير بمسلكها الساعى إلى احتكار كل السلطات.. البرلمان والحكومة والرئاسة والدستور أيضاً، وحيث بدت فى مواجهة حادة مع كافة الأحزاب والقوى السياسية الأخرى وغالبية فئات المجتمع، وهى المواجهة التى ستقود «الإخوان» إلى عزلة سياسية رغم إحرازها حالياً للأغلبية البرلمانية، إذ لن تجعلها بمنجاة من الاحتراق السياسى ولفترة طويلة مقبلة. إن الأزمة التى فجّرتها جماعة الإخوان بترشيح الشاطر وقبلها أزمة تشكيل الجمعية التأسيسية.. هاتان الأزمتان تعكسان حقيقة وخطورة الأزمة السياسية التى تواجهها مصر وثورتها وعلى النحو الذى يهدد استقرار وأمن وسلامة الوطن والمواطنين مالم تتدارك جميع الأطراف.. المجلس العسكرى والأحزاب والقوى السياسية ومن بينها «الإخوان» وحزبها «الحرية والعدالة» الأمر على وجه السرعة وبكل استشعار للمسئولية الوطنية خاصة مع استمرار حالة الانفلات الأمنى والأزمة الاقتصادية. *** إن هذه الأزمة السياسية التى تهدد بانتكاسة الثورة وانتكاسة مصر كلها هى المحصلة والنتيجة الطبيعية لأخطاء إدارة المرحلة الانتقالية من بدايتها ومن ثم أخطاء تدابير وترتيبات إجراءات نقل السلطة.. هذه الأزمة وتلك الأخطاء هى ما حذّر منها فقهاء الدستور والقانون وحكماء الأمة ونخبها السياسية والفكرية الوطنية. الحقيقة هى أن كافة الأطراف شاركت بشكل أو بآخر فى وقوع تلك الأخطاء ومن ثم فالمسئولية مشتركة عن الأزمة السياسية الراهنة.. بداية من المجلس العسكرى ثم الأحزاب والتيارات السياسية على اختلافها حتى شباب الثورة الذين كانوا طليعتها ومفجّرى شرارتها الأولى بل أيضاً المرشحون للرئاسة. وإذا كان من الممكن التماس بعض - وليس كل - الأعذار للمجلس العسكرى فى أخطاء إدارته للمرحلة الانتقالية باعتبار أنه ليست لديه الخبرة السياسية الكافية ولم يكن مستعداً لتلك المهمة السياسية التى فرضتها عليه دواعى حماية الثورة، وإذا كان من الممكن أيضاً التماس بعض - وليس كل - الأعذار لشباب الثورة الذين تواروا بعيداً عن المشهد السياسى عقب سقوط النظام السابق نظراً لقلة خبرتهم السياسية وأيضاً بسبب إقصائهم عن العملية السياسية من جانب كافة الأطراف. إلا أنه من غير الممكن تفهّم أو قبول مسلك القوى والأحزاب والتيارات السياسية ومعها الساعون للوصول لكرسى الرئاسة والذين ألهاهم الصراع على كعكة السلطة عن تدارك وتجنب أخطاء إدارة المرحلة الانتقالية وعن الاتفاق أو التوافق على تدابير وترتيبات نقل السلطة وعلى النحو الذى يوفر ضمانات حقيقية وواضحة لا لبس فيها لإتمام العملية السياسية دون أن تعترضها أية أزمات تهدد بتقويضها أو تعطيلها أو تأخيرها حسبما يتبدّى فى المشهد السياسى هذه الأيام. *** لقد أكدت الأزمة السياسية الراهنة أن إجراء الانتخابات البرلمانية قبل إقرار الدستور الجديد كان من أهم بل أول الأخطاء التى أنتجت الأزمة وأحدثت الارتباك والغموض الذى يكتنف العملية السياسية لنقل السلطة، إذ أن الدستور أولاً كان البداية الصحيحة باعتبار أنه يرتّب إجراءات نقل السلطة وفقاً لترتيب صحيح وهو الذى يحدد أيضاً شكل النظام السياسى الجديد وهل سيكون رئاسياً أم برلمانياً أم مختلطاً وكذلك صلاحيات كل من البرلمان والحكومة والرئيس. بل إن الاستفتاء الذى أجرى على تعديل بعض مواد دستور (1971) كان خطأ دستورياً فى الأساس، إذ أن هذا الدستور سقط بسقوط النظام وبالشرعية الثورية، ولا يصح القول إنه تم تعطيله حسبما أعلن المجلس العسكرى، ومع ذلك فإن الإعلان الدستورى الذى أصدره المجلس لاحقا للاستفتاء ويجبّ تلك التعديلات، وهو الأمر الذى يعنى أن التمسك بالتدابير التى نصت عليها التعديلات لم يكن صحيحاً بالمرة. ثم إن النص فى الإعلان الدستورى على أن يقوم الأعضاء المنتخبون فى مجلسى الشعب والشورى بانتخاب أعضاء الجمعية التأسيسية لوضع الدستور.. جاءت صياغته ملتبسة غير محكمة أو دقيقة، إذ كان يتعيّن أن يكون النص أكثر تحديداً ووضوحاً تجنباً لأزمة تشكيل هذه الجمعية على نحو ما حدث، وفى نفس الوقت فقد كان إسناد مهمة انتخاب الجمعية إلى البرلمان خطأ دستورياً وسياسياً فادحاً، باعتبار أنه وفقاً للقواعد والتقاليد الدستورية العريقة فإن الدستور هو الذى يضع السلطات وفى مقدمتها البرلمان لا أن يضع البرلمان الدستور. كما أن إجراء انتخابات الرئاسة قبل وضع الدستور يعد أيضاً خطأ دستورياً وسياسياً آخر، إذ كيف يتم انتخاب رئيس الجمهورية قبل تحديد صلاحياته وسلطاته، بل إن وضع الدستور فى وجود أول رئيس منتخب بعد إسقاط الدستور السابق يتعارض بالضرورة مع التقاليد والأعراف الديمقراطية. *** من المؤسف ومما يدفع للإحباط أنه بعد أربعة عشر شهراً من سقوط النظام السابق بفعل ثورة 25 يناير وحيث قاربت المرحلة الانتقالية على الانتهاء.. من المؤسف أن تبدو مصر وثورتها داخل نفق مظلم لا تبدو بارقة ضوء فى نهايته وحيث يمكن القول بكل صراحة إن الثورة لم تكتمل وتعطّلت مسيرتها بل تكاد تكون قد أجهضت وفشلت! *** إن استمرار الأزمة السياسية التى تشهدها مصر حالياً وأدخلتها فى النفق المظلم يعنى أن كل الخيارات السيئة قائمة وفى مقدمتها حل مجلسى الشعب والشورى فى حالة صدور حكم من المحكمة الدستورية ببطلان قانون الانتخابات ومن ثم بطلان البرلمان بمجلسيه، ومن بينها وأقربها للتحقيق الحكم ببطلان تشكيل الجمعية التأسيسية التى انتخبها البرلمان وانتخب نصفها من بين نوابه. *** إنه مما يدعو للقلق أن ثمة «سيناريوهات» خطيرة ومحتملة مع استمرار هذه الأزمة السياسية.. أخطرها العودة إلى المربع رقم (1) وبدء مرحلة انتقالية جديدة وبقواعد سياسية جديدة، وهو ما قد يدفع البلاد نحو ثورة ثانية وربما انقلاب عسكرى.. لتدخل مصر إلى المجهول .