إن غيبة مشروع سياسى واضح محدد المعالم لدى المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى فاجأته الأقدار ووضعته فى صدارة السلطة أمام مسئولية إدارة شئون البلاد مثلما فاجأته الثورة وألزمته وطنيا باعتباره جيش الشعب بضمانها وحمايتها وانحيازه إلى مطالبها المشروعة.. إن غيبة هذا المشروع السياسى كانت فى حقيقة الأمر من أهم أسباب الارتباك فى إدارة المرحلة الانتقالية وما ترتب عليه من نتائج وتداعيات وعلى النحو الذى يضع الكثير من الإشكاليات أمام نقل السلطة. غير أن افتقاد المجلس العسكرى لمشروع سياسى لإدارة الثورة والمرحلة الانتقالية وممارسة السلطة السياسية يحسب له لا عليه، بل له ما يبرره لعدة اعتبارات أولها أنه لم يقم بانقلاب للاستيلاء على الحكم، كما أنه لم يكن صاحب هذه الثورة التى فجرها الشعب، ولكن كان لزاما عليه بحكم دوره الوطنى المقدس أن ينحاز إلى الشعب وأن يحمى ثورته، فكان ذلك هو مشروعه الوطنى الذى يمتلك آلياته فى غيبة المشروع السياسى الذى لا يدخل ضمن مهامه بحكم عقيدته العسكرية الوطنية. الأمر الآخر هو أن الثورة ذاتها لم يكن لها مشروعها السياسى قبل أو بعد إسقاط النظام إذ اختزلت مشروعها أو بالأحرى مطالبها فى إسقاطه باعتباره غاية فى حد ذاتها، حيث غابت الرؤية السياسية للمرحلة الجديدة من تاريخ مصر الحديث، ولا شك أن ذلك مرجعه إلى أن الثورة لم تكن لها قيادة جماعية واضحة ومحددة سواء من بين طلائع الشباب الذين فجروا شرارتها الأولى، أو من بين القوى السياسية بعد انضمامها إلى صفوف الثورة بعد أن بدا فى الأفق أنها توشك على بلوغ غايتها، حيث بدا مؤكدا أن النظام يتهاوى ويقترب من السقوط. ولأن نجاح الثورة ظهر له مئات الآباء وتفرق على عشرات القوى والأحزاب والتيارات السياسية التى حرص كل منها على ادعاء المشاركة منذ بدايتها وعلى غير الحقيقة، حيث سعى بعضها إلى الاستحواذ عليها فى الوقت الذى فشلت فيه ائتلافات شباب الثورة العديدة فى توحيد كلمتها ومواقفها وتشكيل قيادة موحدة بهدف الحضور فى المشهد السياسى، لكل تلك الاعتبارات والأسباب تعددت أخطاء إدارة المرحلة الانتقالية والتى ستنعكس نتائجها فى إشكاليات نقل السلطة. *** ومع الصراع الذى احتدم مبكرًا بين التيارات والأحزاب والقوى السياسية على اقتسام أو بالأحرى الاستحواذ على أكبر قدر من كعكة السلطة المدنية المرتقبة وعلى نحو ما تبدى فى إصرار كل من هذه التيارات والأحزاب على تفصيل أولويات وتدابير وآليات نقل السلطة على مقاسها وحدها ووفقا لأهوائها وتوجهاتها.. مع ذلك كان من الطبيعى أن يتم إهدار الكثير من وقت المرحلة الانتقالية فى ضغوط سياسية لابتزاز المجلس العسكرى وفى جدل عبثى.. بدا مجافيا لروح الثورة وأهدافها وعلى حساب مطالب الشعب الحقيقية ومصالح الوطن العليا. ثم إن ثمة إشكالية خطيرة واجهت المجلس العسكرى فى إدارته للمرحلة الانتقالية وهى موجات الاحتجاجات الفئوية اللانهائية التى اجتاحت البلاد وأسهمت بقدر كبير فى الارتباك السياسى، حيث ساد مفهوم خاطئ بأن من لم يحصل على حقوقه المهدرة فى هذه المرحلة فلن يحصل عليها بعد ذلك، ولقد كان الارتباك فى مواجهة تلك الاحتجاجات أحد أخطاء إدارة المرحلة، إذ كان يتعين على المجلس العسكرى أن يكون أكثر حزما فى مواجهة المطالب الفئوية رغم مشروعيتها بالإعلان عن خطة لتحقيقها ولكن بعد استقرار الأوضاع ونقل السلطة إلى حكومة مدنية. أما حالة الانفلات الأمنى التى سادت البلاد فى أعقاب نجاح الثورة وسقوط النظام السابق وبعد انسحاب الشرطة والتى لا تزال مستمرة رغم تراجعها النسبى، فقد كانت أيضاً أحد أهم أخطاء إدارة المرحلة الانتقالية، إذ لم يحظ الملف الأمنى بالقدر الضرورى من الاهتمام، وهو الأمر الذى يمثل فى واقع الأمر إحدى إشكاليات نقل السلطة، ويتعين على المجلس العسكرى حلها فذلك دوره وتلك مهمته العاجلة والواجبة قبل تسليمه للسلطة. *** وإذا كان من الممكن فى تلك الأجواء السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية التماس الكثير من الأعذار للمجلس العسكرى الذى أجهدته وأربكته تلك الأجواء والخلافات والصراعات بين التيارات والقوى السياسية بينما يحاول ضبط النفس وإرضاء الجميع والتوصل إلى توافق عام بينها، إلا أنه وبعد مرور كثير من الوقت كان عليه حماية الثورة والدولة والتصدى لذلك العبث السياسى والإسراع بصياغة مشروع سياسى ملزم للجميع يتضمن خريطة طريق وجدولا زمنيا محددا لإنهاء المرحلة وتسليم السلطة وفقا لآليات وضمانات لنقل السلطة إلى ممثلين حقيقيين للشعب بكافة أطيافه. *** ولعله ليس تكرارا القول بأن ترتيب إجراءات نقل السلطة.. بداية بالانتخابات البرلمانية، ثم إصدار الدستور، ثم انتخاب رئيس الجمهورية.. كان ترتيبا عكسيا، ومن ثم خاطئا ويحمل فى طياته أكبر إشكاليات نقل السلطة وعلى النحو الذى قد يخصم كثيرا من أهداف ومكتسبات الثورة. لقد كان الترتيب الأكثر صوابا والأكبر ضمانا لمكتسبات الثورة وتحقيقا للديمقراطية وبإجماع فقهاء الدستور.. أن تبدأ إجراءات نقل السلطة بإقرار الدستور الجديد أولاً باعتباره الأساس الذى ستقوم عليه الدولة المصرية الجديدة بعد الثورة وباعتبار أنه سيحدد معالم هذه الدولة وشكل نظام الحكم وصلاحيات رئيس الجمهورية واختصاصاته، وكذلك صلاحيات البرلمان الجديد. أما إسناد مهمة إعداد الدستور إلى البرلمان الذى سيختار أعضاء الجمعية التأسيسية التى ستقوم بصياغته، إنما يعنى فى حقيقة الأمر أن يأتى الدستور معبراً فقط عن رأى وتوجهات أغلبية البرلمان والتى قد تتحول إلى أقلية فى البرلمان التالى، وهو أمر يتعارض مع فلسفة الدساتير والتى تحرص الأنظمة الديمقراطية على أن تكون معبرة عن إرادة جموع الشعب بكافة أطيافه وتوجهاته السياسية والاجتماعية أيضاً. *** ولذا فإن إرجاء إصدار الدستور إلى ما بعد الانتخابات البرلمانية من شأنه أن يثير مخاوف النخبة السياسية وقوى الثورة وكل المعنيين بالشأن العام من أن يأتى الدستور الجديد أكثر تعبيرا عن توجهات فصيل سياسى واحد.. ممثلا فى التيارات الدينية المتشددة على اختلافها ما بين الإخوان والسلفيين والجماعات الإسلامية الأخرى، خاصة مع تزايد المخاوف من استحواذها على أغلبية مقاعد البرلمان الجديد وعلى غرار ما حدث فى نقابتى المعلمين والأطباء، وهو أمر لو تحقق فإنه سيكون بالفعل أخطر إشكاليات نقل السلطة. وفى نفس الوقت فإن الأوضاع الأمنية غير المستقرة نسبياً حتى الآن، حيث لم تعد أجهزة الأمن والشرطة إلى العمل بكامل قواتها وقدراتها.. تمثل إشكالية حقيقية أمام إجراء الانتخابات قبل وضع الدستور واستقرار الأوضاع، حيث تبدو ثمة مخاوف من حدوث اضطرابات وانتهاكات إجرامية باستخدام البلطجة وسلاح المال السياسى.. تحول دون توفر ضمانات حيدة ونزاهة الانتخابات التى قد تسفر نتائجها عن برلمان لا يمثل جموع المصريين، بل إن غيبة الضمانات الأمنية قد تسفر عن تأجيل أو إلغاء الانتخابات فى أية مرحلة من مراحلها الثلاثة وبما يمثل أيضاً إشكالية أخرى أمام نقل السلطة. *** وتبقى أخيراً ما سبق أن وصفتها بالفريضة الغائبة بعد الثورة والتى تأخر أداؤها كثيراً.. وهى التطهير.. تطهير الدولة فى كافة المواقع من بقايا وأتباع النظام السابق وحزبه المنحل والمنتفعين بفساده والمضارين من الثورة والساعين إلى إفشالها وإجهاضها والإجهاز على مكتسباتها وتعطيل مطالبها. إن التطهير والعزل السياسى من ضروريات اكتمال نجاح الثورة، بينما إغفالهما تهديد للثورة وإشكالية من إشكاليات نقل السلطة، بل إشكالية خطيرة تواجه السلطة المدنية المرتقبة.