الخلاف السياسى والدستورى الحاد بين كافة القوى والأحزاب السياسية من جهة وجماعة الإخوان المسلمين والسلفيين من جهة أخرى حول إقرار الدستور الجديد أولاً أو إجراء الانتخابات البرلمانية.. لم يكن يستدعى اللجوء إلى لجنة الفتوى والتشريع بمجلس الدولة حسبما فعل ممثلو القوى السياسية الذين تقدموا بطلب لرئيس الحكومة لاستصدار فتوى قانونية لحسم الخلاف وتحسبا لتأييد مطلب إقرار الدستور أولاً، بل لقد كان الأصوب الأخذ برأى فقهاء الدستور الذين أجمع غالبيتهم على ضرورة إقرار الدستور قبل الانتخابات، وهو الرأى الذى يتوافق مع المصلحة العليا والديمقراطية ويضمن قيام دولة القانون قبل أن يتوافق مع إجماع القوى السياسية باستثناء فصيل واحد هو «الإخوان». أما التعلل بنتائج الاستفتاء الشعبى الذى تم إجراؤه فى شهر مارس الماضى على تعديل بعض مواد الدستور السابق، ثم بالإعلان الدستورى الذى أصدره المجلس العسكرى تاليا للاستفتاء حسبما تتمسك جماعة الإخوان والذى نص على إجراء الانتخابات قبل الدستور، فإنه يُعدّ نوعا من التعسف السياسى الذى يصطدم برأى الأغلبية ويتعارض مع روح الثورة ومطالبها وأهدافها فى آن واحد. لقد أسقطت الثورة النظام السابق وشرعيته، ومن ثم فقد أسقطت الشرعية الدستورية وأقامت شرعية ثورية وهى شرعية من شأنها إحداث التغيير الشامل والجذرى، ومن ثم فلا شىء مقدس أمام هذه الشرعية سوى مصالح الدولة والوطن والمواطنين العليا، والتى تقتضى المراجعة وإعادة النظر فى أية ترتيبات وتدابير وصولاً للأفضل الذى يلبى مطالب الشعب ويحقق أهداف الثورة. *** وحقيقة الأمر فإن الاستفتاء الشعبى حول تعديل بعض مواد الدستور السابق وبصرف النظر عن نتيجته.. كان خطأ فادحا وقعنا فيه جميعا.. باعتبار أن ذلك الدستور سقطت شرعيته وتعطّل نهائيا حتى قبل أن يصدر المجلس العسكرى الإعلان الدستورى الأول عقب سقوط النظام والذى تضمن تعطيل العمل بأحكام الدستور، ومن ثم فلم يكن من الجائز سياسيا ودستوريا الاستفتاء على تعديل بعض مواده بينما كان قد سقط نهائيا، ولعله لا تفسير لذلك الخطأ سوى الارتباك السياسى الذى واجهناه جميعا بعد السقوط السريع للنظام وربما أيضاً بفعل نشوة نجاح الثورة. الأمر الآخر بل الخطأ الآخر فى تلك التعديلات والاستفتاء عليها هو حالة الالتباس وسوء الفهم التى تواكبت مع إجراء الاستفتاء، وحيث حدث ربط خاطئ ومتعمد بكل أسف بين التصويت ب «نعم» أو «لا» وبين بقاء نص المادة الثانية من الدستور السابق الخاصة بهوية الدولة وبأن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع بينما لم تكن هذه المادة مدرجة ضمن المواد المعدّلة، وهو الربط الذى جرى استغلاله أسوأ استغلال من جانب جماعة الإخوان والسلفيين وعلى النحو الذى أضفى بُعداً طائفياً دينياً على الاستفتاء، وذلك هو السبب الوحيد والحقيقى فى تصويت الغالبية العظمى وبنسبة تزيد على (77%) ب نعم! ورغم أن إصدار المجلس العسكرى للإعلان الدستورى الذى تلا الاستفتاء جاء تداركا وتصويبا لخطأ تعديل بعض مواد الدستور المعطّل وبعد أن ذهبت «السكرة» وجاءت «الفكرة»، إلا أن ذلك الإعلان الدستورى شابه خطأ آخر وهو أنه تضمن المواد التى جرى تعديلها بالاستفتاء وأخرى من نفس الدستور المعطل وبنفس نصوصها! ولذا فإن التمسك بإجراء الانتخابات البرلمانية قبل إصدار الدستور الجديد.. استناداً إلى نتائج الاستفتاء ليس له أى سند قانونى أو دستورى، إذ إن المواد المعدلة التى جرى الاستفتاء عليها لم تتضمن النص على إجراء الانتخابات أولاً، بينما جاء النص على ذلك فى الإعلان الدستورى وهو إعلان لم يتم الاستفتاء عليه، ومن ثم فإن من أصدره وهو المجلس العسكرى يمكنه إجراء تعديلات عليه. هذا التوضيح ضرورى لرفع الالتباس وإزالة سوء الفهم الذى تروج له وتشيعه جماعة الإخوان بدعوى أن تأجيل الانتخابات لما بعد إصدار الدستور الجديد يعدّ التفافا على إرادة الشعب ونتائج الاستفتاء، بل التفافا على الديمقراطية ذاتها!! *** ليس سراً أن السبب الحقيقى لهذا الخلاف الحاد المشتعل بين كافة الأحزاب والقوى السياسية وبين جماعة الإخوان حول البدء بالانتخابات أم بالدستور هو أن الجماعة ومعها بقية التيارات الدينية من السلفيين وغيرهم وباعتبارها الأكثر تنظيما واحتشاداً ترى أن إجراء الانتخابات وعلى وجه السرعة فى شهر سبتمبر المقبل من شأنه أن يضمن لها إحراز أكبر عدد من المقاعد البرلمانية بما يحقق لها الأغلبية التى تمكّنها من تشكيل الحكومة القادمة واحتكار التشريعات رغم ادعائها بأنها لن تسعى للحصول إلا على ثلث المقاعد فقط، بينما ترى كافة القوى السياسية الأخرى أن المدة المتبقية على موعد الانتخابات غير كافية ولا تتيح للأحزاب الجديدة الناشئة من رحم الثورة تنظيم صفوفها وإعداد برامجها السياسية والالتحام بالشارع.. استعداداً للانتخابات. *** غير أن ثمة أسبابا واعتبارات موضوعية وإجرائية ترجّح بل تؤكد ضرورة تأجيل الانتخابات بصفة عامة، سواء قبل إصدار الدستور أو بعده، فى مقدمتها الحالة الأمنية غير المستقرة مع استمرار الفلتان الأمنى وتصاعد ظاهرة البلطجة فى ربوع البلاد فى الوقت الذى لا تبدو فيه أية بوادر لعودة حقيقية وكاملة للشرطة وأجهزتها الأمنية المختلفة، وهى حالة تجعل من إجراء الانتخابات بنزاهة وشفافية أمراً مستحيلاً فى الوقت الراهن، إذ من المؤكد أن مئات الآلاف من البلطجية سوف يتم استخدامهم فى الانتخابات المقبلة إما لصالح فلول النظام السابق وحزبه المنحل حسبما كان يحدث فى الماضى وإما لإحداث فوضى وتخريب وترويع لإفساد عملية الانتخابات ذاتها. ثم إن استمرار المجالس المحلية والتى تهيمن عليها بالكامل فلول النظام السابق أو الحزب الوطنى المنحل، والتى لا تزال تسيطر وتتحكم فى مفاصل الإدارة فى ربوع الريف والصعيد.. يمثل خطراً كبيراً على إجراء الانتخابات وعلى صدقية نتائجها، وذلك أحد الأسباب المهمة لضرورة تأجيل الانتخابات حتى يتم حل تلك المجالس وقبل إجراء الانتخابات بوقت كاف. *** أما عن ضرورات إقرار الدستور الجديد أولاً وقبل إجراء أية انتخابات سواء برلمانية أو رئاسية ومن حيث المبدأ وبصرف النظر عن الأسباب الأخرى لتأجيلها، فإنها ضرورات سياسية وديمقراطية بل دستورية أيضاً، أولها وأهمها أن الدستور الجديد هو البناء الذى ستقوم عليه الدولة المصرية الجديدة بعد الثورة، وهو الذى سيحدد معالم هذه الدولة وصلاحيات البرلمان والرئيس وهل سيكون نظام الحكم رئاسيا أم برلمانياًّ، ومن ثم فهو الأساس لإعادة بناء مؤسسات الدولة. ثم إن الدستور الجديد هو الذى سيقرر هل يتم الإبقاء على نظام غرفتى البرلمان أم سيتم إلغاء مجلس الشورى الذى أثبتت التجربة عدم أهميته وجدواه، وكذلك هل سيتم الإبقاء على نسبة ال (50%) عمال وفلاحين والتى أكدت التجارب البرلمانية خلال ستة عقود عبثية الالتزام بهذه النسبة. أمام كل هذه الاحتمالات فإن إقرار الدستور بعد إجراء الانتخابات قد يسفر عن إعادتها مرة أخرى إذا ما تعارضت نصوصه مع تشكيل البرلمان الجديد وكذلك الأمر بشأن انتخابات الرئاسة إذا ما تضمن الدستور الأخذ بنظام الجمهورية البرلمانية. وفى نفس الوقت فإن إسناد مهمة إقرار الدستور الجديد إلى جمعية تأسيسية منتخبة من البرلمان إنما يعنى أن يأتى الدستور معبرا فقط عن رأى وتوجهات الأغلبية فى هذا البرلمان والتى قد تتحول إلى أقلية فى البرلمان التالى، وهو الأمر الذى يتعارض مع فلسفة الدساتير والتى يتعين أن تكون معبرة عن آراء جموع الشعب بكافة أطيافه السياسية. *** إذا كنا بصدد ثورة شعبية أسقطت نظاما مستبدا فاسدا بعد ثلاثين سنة من احتكار السلطة والحكم.. كادت أن تمتد إلى أجل غير معلوم عبر سيناريو التوريث الذى أجهضته الثورة والذى كان يمثل انتهاكا صارخا لفلسفة النظام الجمهورى واستمرارا للاستبداد وإهداراً للديمقراطية، فإن التروى فى بناء الدولة بعد الثورية يعد من الضرورات التى تبيحها الشرعية الثورة والتى تعنى أن لا شىء مقدس، ولا شىء يعلو فوق أهدافها ومطالبها. وإذا كانت إرادة قوى هذه الثورة ومعها النخب السياسية والقانونية والفكرية جميعها وباستثناء فصيل سياسى واحد وهو جماعة الإخوان قد أجمعت على ضرورة إصدار الدستور الجديد أولاً، فإن هذا الإجماع السياسى والثورى يَجُبُّ ويلغى أى ترتيبات أخرى لنقل السلطة حتى لو كانت فى الإعلان الدستورى. *** كل ما سبق من أسباب ومبررات واعتبارات يرجح وبقوة إقرار الدستور أولاً.. ضماناً للديمقراطية ودولة القانون.