لقد دق ذلك الإرهابي الانتحاري ناقوس الخطر بقوة في شمال أفريقيا وجنوب أوروبا، ما أن فجّر نفسه في الحادي عشر من أبريل الجاري في العاصمة الجزائر، مودياً بحياة 33 شخصاً، ومتسبباً في إصابة ما يزيد علي الألفين، إلي جانب الأضرار البالغة التي سببها لمبني الحكومة المؤلف من ثمانية طوابق. هذا وقد أعلنت جماعة إسلامية متطرفة مسئوليتها عن الهجوم الانتحاري المذكور، بعد أن سبق لها أن اندمجت مع تنظيم "القاعدة"، وهي تطلق علي نفسها حالياً اسم "تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي". ويقال إن من يتزعم هذه الجماعة شخص يدعي "أبو مصعب"، وهو خبير ومهندس في المتفجرات، تلقي تدريباً علي العمل الإرهابي في أفغانستان. ويقال أيضاً إن هذه الجماعة التي كانت تطلق علي نفسها في السابق اسم "الجماعة السلفية للدعوة والقتال"، تتألف من نحو ألف مقاتل، إلا أن لها ارتباطاتها وصلاتها الخارجية، التي تمدها بالمزيد من المجندين والمال والمساعدات اللوجستية. وقد أعلنت أن أعداءها هم السلطات الجزائرية والغرب. علي أن فرنسا تظل هي الهدف الرئيسي للجماعة المذكورة، بسبب ما تتهم به من دعم مفرط لنظام عبدالعزيز بوتفليقة الحاكم في الجزائر الآن. وما دام الحال هكذا، فإن من الطبيعي أن تعلن فرنسا حالة التأهب القصوي لأي هجوم إرهابي محتمل عليها، مع العلم أنها أضحت علي مبعدة أسبوع واحد فحسب من بدء الجولة الأولي من الانتخابات الرئاسية، التي من المقرر لها أن تضع حداً لمسيرة اثني عشر عاماً من حكم الرئيس الحالي، جاك شيراك. وضمن الاستعدادات الاحترازية هذه، فقد تم نشر الآلاف من أفراد الشرطة الاحتياطيين، وأوكلت لهم مهمة حراسة المواقع الحساسة، مثل محطات التوليد النووي، وملتقي شبكات طرق النقل، ومستودعات المياه، إضافة إلي حراسة الاجتماعات السياسية التي تعقد في كافة المدن والضواحي الفرنسية الكبري. يشار أيضاً إلي أن كلاً من أسبانيا وإيطاليا قد اتخذت إجراءات أمنية احترازية شبيهة بهذه. هذا ولا تزال الجزائر تكابد آثار صدمة ذلك الهجوم، الذي أعاد إلي ذاكرتها كوابيس رعب سنوات تلك الحرب البربرية التي شهدتها طوال عقد التسعينيات، ودارت رحاها بين قوات الجيش والإسلاميين، وراح ضحيتها ما يربو علي المئة ألف، بينما عد نحو 17 ألفاً علي الأقل بين المفقودين. وبفعل تأثيرات تلك الحرب، فقد فر خيرة المهنيين وأبناء وبنات الطبقة الوسطي الجزائرية من جحيم دوامة العنف تلك، مهاجرين من وطنهم إلي بلدان أخري أكثر أمناً وسلامة. وفي هذه المرحلة ، فإن في الإمكان استنباط بعض الاستنتاجات الأولية علي الأقل. فإلي جانب استهدافها للمبني الحكومي، في ضربة رمزية قصد منها استهداف ذات المبني الذي كان يوماً ما مقراً رئيسياً للإدارة الاستعمارية الفرنسية سابقاً في الجزائر، تمكنت الهجمات الانتحارية الأخيرة هذه، من تدمير نقطة للشرطة تقع علي الطريق المؤدي إلي مطار الجزائر الدولي. وقد بات معروفاً أن التفجيرات الانتحارية هي ماركة تجارية مسجلة باسم تنظيم "القاعدة"، وفيما يبدو فهي قد استوردت من العراق إلي هناك. وتدل الوقائع والشواهد التاريخية علي أنه لم يسبق استخدامها في الجزائر، سوي مرة واحدة فحسب، في منتصف عقد التسعينيات. ولذلك فإن استخدامها مجدداً، وعلي هذا النحو من العنف والدموية، إنما يدق ناقوس الخطر، من ناحية إشارتها إلي مطامع تنظيم "القاعدة" في بناء شبكة وخلايا واسعة له، في منطقتي شمال أفريقيا وجنوبي الصحراء الأفريقية، وفي سعيه لتوحيد وتنسيق نشاط إرهابييه في منطقة واسعة تمتد من موريتانيا وحتي دول القرن الأفريقي. وليس ذلك فحسب، بل جاءت هذه التفجيرات التي شهدتها الجزائر، بعد يوم واحد من تفجير ثلاثة انتحاريين مغاربة لأنفسهم في الدارالبيضاء، تفادياً لاعتقالهم من قبل قوات الشرطة. ويبدو هؤلاء الانتحاريون ومن والاهم في النهج، من مجموعات الشباب الذين تلهب حماسهم صور الموت والعنف التي تبثها شاشات التليفزيونات والفضائيات عن الحروب الدائرة في كل من العراق وفلسطين ولبنان وأفغانستان، وتلفهم مشاعر اليأس والإحباط جراء البطالة والظلم والمهانة في دول يقصي فيها الإسلاميون عن مراكز السلطة واتخاذ القرار، بينما تضيق فيها الأحزاب الحاكمة قبضتها الخانقة علي أجهزة الحكم. وتشخص في عيون هؤلاء الشباب بطولات وصور أسامة بن لادن الأب الروحي لتنظيم "القاعدة" و"الجهاديين"، وكذلك صور حسن نصرالله، زعيم حركة المقاومة الشيعية اللبنانية. ويتبدي كلاهما في صورة البطل الشعبي الذي يتصدي بمفرده لجبروت الغرب وإسرائيل، بينما يشعلان فيهم مراجل الغضب والكراهية للرئيس الأمريكي جورج بوش. علي أن هذه الهجمات الإرهابية التي شهدتها الجزائر مؤخراً، تعد انتكاسة كبيرة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الذي ابتدر في عام 2005، سياسة لعقد المصالحة الوطنية في بلاده. وكان العمود الفقري لهذه السياسة السلمية، إعلان العفو العام عن المتشددين الإسلاميين الذين أعلنوا "توبتهم" وتخليهم عن العنف والقتال، وعادوا مجدداً إلي ساحة العمل السياسي المدني. وبالنتيجة فقد استسلم نحو 300 من المقاتلين الإسلاميين وقتئذ، بينما أطلق سراح حوالي 3 آلاف منهم. والآن فقد ثارت الانتقادات لهذه السياسة التي وصفت بالتساهل والمرونة، بينما علت أصوات المتشددين داخل المؤسسة العسكرية الجزائرية علي وجه الخصوص، بضرورة العودة إلي سياسة "استئصال" الإسلاميين. ومهما يكن، فإن الحرب الجزائرية علي المتشددين الإسلاميين لم تضع أوزارها بعد. ذلك أن وحدات من الجيش الجزائري، كانت قد شنت هجمات "تمشيط" شرسة في كل من مناطق القبائل وغيرها من المناطق القريبة من العاصمة. وكان سبعة من الجنود قد لقوا حتفهم في كمين نصب لهم في السابع من أبريل الحالي. ومن جانبها فقد نشطت الولاياتالمتحدة علي نحو خاص، في الصراع الدائر في شمالي أفريقيا وجنوبي الصحراء ضد هذه الجماعات. وليس أدل علي ذلك من إعلان "روبرت جيتس"، وزير الدفاع الأمريكي الجديد عن تشكيل قيادة أفريقية جديدة يطلق عليها اختصاراً اسم AFCOM أوكلت إليها مهمة التعاون العسكري مع دول المنطقة، وشن العمليات متي ما اقتضت الضرورة. وفي الاتجاه نفسه، فقد شرعت القوات الأمريكية الخاصة سلفاً، في تدريب القوات التابعة لعدة دول أفريقية. وفي عام 2005، أطلقت "مبادرة عبر الصحراء" لمكافحة الإرهاب، بهدف توسيع جهود التعاون العسكري، لتشمل كلاً من دول المغرب العربي، وغربي أفريقيا. والهدف الرئيسي لكل هذه الأنشطة، هو استئصال وجود تنظيم "القاعدة" وطرده من الملاجئ الآمنة التي توفرها له دول المنطقة، إلي جانب حماية حقول النفط والعمليات البرية المرتبطة بإنتاج النفط، في كل من الجزائر والجابون وأنجولا وغينيا الاستوائية ونيجيريا. غير أن المعضلة هي استحالة هزيمة هذا التيار الأصولي المتشدد في ساحة العمل العسكري وحده. ومن أجل تجفيف منابع مجندي هذا الخطر الإرهابي، فلا مناص من إحراز تقدم فعلي وعملي في وضع حد للحروب الأمريكية الدائرة في كل من العراق وأفغانستان، وكذلك إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، مع العلم أن هذا الاحتلال هو أكثر ما يثير ثائرة المسلمين في شتي أنحاء العالم، ويحضهم حضاً علي كراهية كل من إسرائيل وحليفتها واشنطن.