طالت سلسلة مقالاتي عن غياب الرؤية الاستراتيجية للسياسة الخارجية المصرية زمن الوزير المدهش/ الفلتة محمد كامل عمرو عما قدرت حين بدأتها، لأن مستجدات حدثية صادفتني أثناء وضعها وصياغتها، ووجدت من الحتمي تعرضي لها لصلتها العضوية الوثيقة بخصال غياب الرؤية والمشروع عند ذلك الوزير متبسم الثغر ضحوك الفاه! وبيقين فإن استكمال فكرتي عن غياب الرؤية الاستراتيجية لوزير الخارجية المصرية حول المتغير الروسي تحضر بقوة في سياق هذا المقال وإطاره الآن وبالذات ما يتعلق بعقدة سياسات موسكو لأساسية في الشرق الأوسط وأعني بها: »محور موسكوطهران«، وتأثير ذلك علينا.. والحديث عن رؤية إزاء المتغير الروسي لا يعني استقبال الأستاذ محمد كامل عمرو لسيرجي ثرشينين مبعوث وزير خارجية موسكو »كما جري في أول يوم من الشهر الجاري«، لمناقشة الوضع في سوريا، وتنفيذ خطة كوفي أنان المبعوث الدولي، وتوحيد قوي المعارضة السورية، والوضع في جنوب السودان، فذلك كله هو لون من الرقص علي ايقاعات الآخرين، فمثل ذلك اللقاء يعني أن هناك تحركا روسيا في المنطقة بناء علي رؤية استراتيجية لموسكو، ولاهداف ومسارات محددة يبني ذلك البلد سياساته وتحركاته عليها، هناك مصالح روسية في سوريا سواء بقواعد الأسطول في المياه الدافئة أو بتأمين المناطق القريبة من البطن الرخو لروسيا الاتحادية أو بعدم السماح للمتطرفين الإسلاميين »ذوي الصلة الوثيقة بكتائب الشيشان المتصادمة مع الحكومة الروسية«. بتحقيق انتصار في سوريا يوطد ويعضد أولئك الشيشانيين الذين دحرهم بوتين علي موجتين وفيما يخص السودان فالمصالح البترولية والتنافس مع الصين يفرضان أرجحية روسية حقيقية.. أما نحن فبلا مبادرات نتحرك كردود أفعال للآخرين، ونناقش معهم ما يضمنونه اجنداتهم أو ما تنتظمه رؤاهم، ووفقا لأولوياتهم! وعودة إلي موضوع العلاقات الروسية الايرانية التي أعدها النقطة المركزية لرؤية موسكو واستراتيجيتها الشرق أوسطية، والتي سيبين من خلال استعراضها حجم القصور المصري وانعدام الخيال، والمبادرة الذي افضي إلي قحط سياسي حقيقي لا نتحرك فيه برؤية مصرية تجاه الآخرين وانما ننتظر التعامل مع ما يفرضونه علينا. اتصفح هنا دراسة لمارك كيج من مركز نيكسون للدراسات السياسية وفيها يورد أن روسيا دائما افتقرت إلي استراتيجية قوية في الخليج العربي حتي في أيام الاتحاد السوفيتي، كما افتقرت القدرة علي تصور استخدامها، القوة فيما وراء الاستقطاب القاري »الأوروبي«، فقد كيفت موسكو وضع البحرية السوفيتية ليلائم احتياجات حرب قارية في أوروبا، وحماية أساطيل الغواصات حاملة صواريخ الدفع الذاتي »الباليستية« في قواعدها بالوطن الأم في بحر بارينتس وبحر أوخو تسك. يعني إذا وضعنا كلام مارك كيج، مع بنود استراتيجية أمريكا للأمن الأمريكي القومي في القرن 21 والتي صدرت عن البيت الأبيض في 1999 سنجد أن الجغرافيا كانت العامل الأساسي في تشكيل وجهات النظر الاستراتيجية لكل من أمريكا وروسيا في الخليج بعد الحرب الباردة، ولما كانت نظرة واشنطن لأمن الخليج »بحرية« بالدرجة الأولي، فإن حدود إيران القوقازية وبحر قزوين في آسيا الوسطي كانت في نظر واشنطن عنصرا هامشيا جدا، وآنيا جدا حين النظر اليها من شباك السياسة الأمريكية في الخليج.. أما بالنسبة لروسيا فإن المصالح الروسية الأولية في إيران تلخصت في موضوع آسيا الوسطي والحدود الإيرانية مع القوقاز كان أهم من موطيء القدم الذي تستطيع موسكو بلوغه في الخليج العربي، بعبارة ثانية فان اقتراب موسكو كان قاريا دائما، وقد ظهر عنصر إيران في الحسابات الروسية »ليس في سياق سياستها ازاء طهران في ذاتها، ولكن في سياق ملامح زمن توقف الحرب الباردة بين أمريكا وروسيا، وكان الهاجس الأساسي لهذا الاقتراب هو الدور الذي يمكن أن تلعبه إيران مع دول وسط آسيا الإسلامية التي تقع في بطن روسيا، وكان ذلك هو ما دفع موسكو إلي السعي لخلق محور استراتيجي بين موسكووطهران ونيودلهي لمواجهة طالبان، ونظام تقسيم السيادة في بحر قزوين، وفوق هذا تأكيد إيران بالمقابل بمصادقة طهران علي معالجة حكومة بوتين لمشكلة الشيشان في إطار وحدة روسيا الاتحادية.. هذا كله بينما نحن محصورون في رؤية دول مجلس التعاون الخليجي لعلاقاتهم بإيران، ولا نعبر بخيالنا حدود الارتباط الكامل بتلك الرؤية، وتصو دور أهم لمصر، سواء ببناء جسور علاقة أقوي مع طهران، أو بتطوير العلاقة مع موسكو، ولعب دور الوسيط بين الأطراف علي ضفتي الخليج، ولكن الخضوع إلي واشنطن والانصياع إلي نواهيها في هذا السياق وهي مسئولية رئاسية في المقام الأول جعلنا باستمرار أسري نموذج غير مبادر، فلما قامت ثورة يناير، وأتحفنا زماننا بوزير خارجية يمعن في الابتسام ويجيده، ويقدم نفسه بوصفه واجهة لسياسة تلك الثورة الخارجية لم نجد أمامنا شيئا يذكر.. ولقد عرفت وحاورت من قادة الخارجية المصريين علي امتداد عمري المهني السادة محمد إبراهيم كامل وإسماعيل فهمي وعصمت عبدالمجيد وكمال حسن علي ومحمد حافظ إسماعيل، وعمرو موسي وأحمد أبوالغيط وأحمد ماهر السيد وأسامة الباز ومحمد العرابي وعشرات الوكلاء والمساعدين والسفراء، والشباب من الوزراء المفاوضين والمستشارين والسكرتاريين الأول والثواني، ولم أجد مثل السيد محمد كامل عمرو الذي خلا أداؤه من أي لمحة ابتكار وهو ما أسميه الرؤية والمشروع، وفهمنا لحقيقة سياسات موسكوالإيرانية، وإجادة استخدام الكروت التي يمكننا حيازتها كان سيمكننا من بناء رؤية حقيقية تخدم المصالح المصرية، وتعمد دور جديد للقاهرة. أجندة السياسة الخارجية الروسية التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي عكست نسقين من العلاقات أحدهما مع أوروبا والولاياتالمتحدةالأمريكية »أي النسق اليورور أطلنطي«، والآخر مع الدول المستقلة حديثا حول محيط روسيا الاتحادية وهي الدول التي ترتبط وبشكل وثيق بالجمهورية الإسلامية في إيران، بما يكفل استقرار ميراث موسكو الأمني والاستراتيجي في إطار الحدود السوفيتية القديمة. كانت بعض الصراعات التي واجهتها روسيا في السنوات الأخيرة في أباخازيا ومولدوفا وطاجيكستان وناجورنوكاراباخ، ميدانا بلور أهمية وخطورة العلاقات مع إيران صاحبة التأثير المعنوي والأمني المؤكد علي الجمهوريات الإسلامية جنوبروسيا الاتحادية، علي أن العلاقات بين روسيا وايران لم تصغ نفسها في شكل وجود استراتيجي وسياسي يستند إلي منطق نظري محكم، وإنما كانت تعبيرا عن مصالح ظهرت ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، كما كانت تعبيرا مشتركا عن الرغبة في التضاد والمشاغبة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية ورغبة موسكو في استكمال المنظور القاري للرؤية الدولية الروسية الاستراتيجية الذي تدير به موسكو سياساتها الخارجية إزاء الولاياتالمتحدةالأمريكية، إذ ضمن ذلك المنظور القاري كانت روسيا منهمكة دائما في العلاقات مع أوروبا بخاصة إزاء دول كتلتها القديمة في أوروبا الشرقية التي هندست فلسفة امنية جديدة مع حلف الناتو حين انضمت إليه وعلاقاتها الخاصة بواشنطن التي جعلت من اراضيها متكأ لاقامة الدرع الصاروخية الواقية من الصواريخ، بخاصة بعدما اختفت اية اشارات ذات وزن خاصة بافريقيا، وامريكا اللاتينية والشرق الأوسط، اللهم إلا بعض التلميحات السطحية التي احتلت مكانها في وثائق مجلس الدفاع والسياسة الخارجية المنظمة الروسية غير الحكومية الأكثر بروزا فيما يخص تشكيل قرار السياسة الخارجية بالرأي.. إيران إذن هي الموضوع، وان كانت تمثل ثقلا خاصا لروسيا من حيث اهميتها في حماية بطن الاخيرة في مواجهة الحركات القومية ذات الجذور الإسلامية في جمهوريات آسيا الوسطي، فإنها تمثل أهمية خاصة كذلك في موازنة التحالف »الأمريكي الاطلنطي التركي« في تلك المنطقة، وبالتالي فهي تحتل مكانة بارزة في رؤية روسيا الامنية ذات الطبيعة القارية، وهو ما يؤثر علي وضع الشرق الأوسط الذي يفرض أن تكون لنا رؤية تدفعنا إلي بناء دور نتصوره لانفسنا في المنطقة ويضع في اعتباره بالذات المتغير الروسي، محاولا أن يجعل منا بلدا عنده خيال وليس مجرد رد فعل يتحرك حيث يريد له الآخرون وكيف يريد له أولئك الآخرون وهو ما يجب ان يفهمه السيد محمد كامل عمرو الذي يتربع علي مقعد قيادة مؤسسة كبيرة جدا ولكنه فيما يبدو لا يعلم. وأكمل في الأسبوع القادم إن شاء الله.