بينما هي في السابعة من عمرها، كانت ابتسام محمود تسير بمحاذاة كورنيش النيل في منطقة مصر القديمة، حين وجدت ازدحاما طفيفا، وسيدة أنيقة تُمسك المذياع، ثم تقوم بإعطائها إياه، تلعثمت الصغيرة من الموقف، سألتها المذيعة عن اسمها وعمرها، ثم طلبت منها أن تتلو الحروف الأبجدية.. مرّ المشهد بسلام، عادت لمنزلها سعيدة، غير أنها علمت فيما بعد أنها التقت للتوّ بآمال فهمي، مقدمة البرنامج الإذاعي "على الناصية". رحلت اليوم، الإذاعية الشهيرة، آمال فهمي، عن عُمر ناهز ال92 عاما، بعد صراع مع المرض، رغم ذلك فما قدّمته "ملكة الكلام" كما اُطلق عليها، باقي في نفوس مُحبيها، بعضهم له ذكريات خاصة مع برنامجها، آخرون نشأوا على صوتها يؤنس المنزل. فيما بعد، علمت ابتسام أكثر عن صاحبة الصوت الذهبي "لما روّحت البيت يومها قولت لهم بالوصف إني قابلت مذيعة بتوقف الناس وتكلمهم قالولي دي آمال فهمي"، نشر ذلك الموقف السعادة في منزل السيدة التي تخطت 65 عاما "حكولي عنها كتير وبعدين لما كبرت بقيت أسمعها". تتذكر السيدة حالة الفخر التي اعترتها وقتها "أنا جاوبت على أ ب صح فكنت مبسوطة ولما عرفت إنها مشهور اتبسطت أكتر". "التلقائية" كانت أكثر ما يميز الإذاعية الراحلة "مش زي برامج دلوقتي كأنهم بيختاروا الضيوف"، تتذكر ابتسام تلك الفترة "يمكن آمال كانت محبوبة عشان الناس كانت بسيطة فهي كانت بتقدم لهم الحاجات بشكل يناسبهم". في العشرين من عُمرها عملت آمال فهمي في الإذاعة، تدرجت في المناصب حتى أصبحت أصغر رئيس لإذاعة الشرق الأوسط، كانت السماحة دستورها في الحياة، والتحدي عنوانها في العمل، لذا ظل صوتها هو المقرب للسيدة فاطمة عبد السلام. "لله الأمر من قبل ومن بعد".. قالتها الأم الخمسينية ما إن علمت بوفاة المذيعة. لها في حُب البرنامج تفاصيل عديدة "كل جمعة من واحدة الظهر لاتنين ونص كان السماع شيء مقدس"، لا تذكر المدير العام بمصلحة الضرائب أنها فوّتت حلقة أبدا "ساعات كنت بسمع الإعادة كمان". بينما يتم تقديم "على الناصية" في إذاعة البرنامج العام، كانت إذاعة الشرق الأوسط تقدم "ما يطلبه المستمعون" في نفس الوقت "مكنتش بحتار أسمع إيه.. بسمع آمال وفي الفواصل أروح لما يطلبه المستمعون أسمع اللي بلحقه من الأغاني"، تحكي فاطمة. لم تشعر السيدة الخمسينية يوما أن الإذاعية الراحلة كانت مصطنعة "بالعكس.. إنسانة جدا وعرفت إنها كانت بتحل مشاكل ناس بتوديهالها فعلا"، ظل الاستماع طقس دائم، حتى توقف البرنامج مؤقتا في فترة الستينيات، بسبب تحدث بعض المواطنين معها عن أزمات خاصة بالمياه والبنية التحتية، بينما قالت الإذاعية الراحلة في أكثر من حوار صحفي إنه تم توقيفها بسبب مهاجمتها علي صبري، نائب الرئيس جمال عبد الناصر، أما فاطمة فتقول "كل اللي انا عارفاها إني افتقدت صوتها في الفترة دي وكانت بتوحشني". بعدما انشغلت فاطمة في زحام الحياة "فضل صوتها موجود معايا دايما"، كانت السيدة الخمسينية تتحين أي فرصة لتجلس قبالة الراديو وتستمع، وحينما تأتيها الفرصة كانت تحكي لأولادها عن الإذاعية الراحلة "انا جيلي كله كان بيتخيل نفسه ماشي في الشارع وبيقابل الست آمال بالصدفة، كنا بنتخيل هنرد عليها إزاي وهنقول لها إيه".. تقول ضاحكة. كان الراديو فترة الخمسينيات والستينيات إحدى مُعجزات العصر، حجمه ضخم، يجتمع حوله أفراد العائلة، يُعطونه حقه من الاحترام، أما صباح عبدالرحمن، فكان الراديو بالنسبة لها يعني شيئين "الست أم كلثوم وآمال فهمي". في الإسكندرية عاشت صباح ذات الإثنين وستين عاما، كان برنامج "على الناصية" فرصة لاجتماع أفراد الأسرة "كان أهل البيت بيتلموا حوالين الراديو الضخم في غرفة المعيشة". ظل برنامج الإذاعية الراحلة كنزا يحوي مشاكل وقضايا اجتماعية متنوعة، فردت آمال فهمي للناس مساحة واسعة للحديث، استمعت لهم بروحها "مكنتش بتتكبر على حد.. كل ضيوفها زي بعض.. اللي بيطلع معاها بيحس إنه مهم بغض النظر وظيفته إيه".. حسبما تقول فاطمة. لذا كان رحيلها مؤثرا في جمع كبير أيضا.