بيروت (رويترز) - في قراءة مجموعة الشاعر المهجري قيصر عفيف "الفتوحات الصباحية" قد يحار القارىء في اي منهما اكثر شعرية.. المقدمة الفكرية الرائعة ام القصائد العميقة والموحية المؤثرة. والواقع هو ان المقدمة القيمة التي كتبها قيصر عفيف لمجموعته الشعرية الجديدة تظهر ان بعض الغوص الفكري والنفسي العميق يتحول الى شعر رائع اذا قيض له تحويل التساؤلات الفكرية والنفسية الى تجارب شعورية تتجسد في ما يمكن ان يوصف فعلا بانه شعر فكري اذا لم نقل فكر صهرته حرارة النفس فتحول الى شعر. لكن ينبغي القول هنا اننا مع الشاعر ندخل في ما يعتبره تجاوزا للفكر وتساؤلات العقل البارد.. اننا في عالم من التصوف يصل الى ابعد من كل ذلك. المجموعة وهي ثامنة مجموعات الشاعر الذي يقسم اقامته بين المكسيك ولبنان جاءت في نحو 150 صفحة متوسطة القطع. وقد صدرت عن (منشورات الحركة الشعرية) في المكسيك. ويصدر قيصر عفيف في المكسيك مجلة (الحركة الشعرية) التي تعنى بالشعر الحديث في المهاجر وفي العالم العربي. تبدو المقدمة التي كتبها الشاعر كتابة تفيض بالاشراقات الروحية التي تقوم على تأملات فكرية وغوص نفسي وصوفي. الا انه يصر على ان نقل الباطني ليس صعبا فقط بل انه يكاد يكون متعذرا او انه كذلك. يبدأ قيصر عفيف بالقول "كل كلمات الصباح فتوحات.. فالصباح ليس زمنا. إنه كل لحظة تشرق فيها شمس الداخل. كل لحظة تبدو فيها ظواهر الخارج على غير ما تظهره الحواس. وحين تتحول هذه اللحظات الاشراقية الى كلمات تلبس اجسادا مادية لكنها تخسر غنى الباطن الخفي." يضيف "في عالم الخارج تتوزع الاشياء. يبدو كل شيء في وجوده الخاص منفصلا انفصالا تاما عن غيره من الاشياء. فالارض غير الاشجار والطيور والاحجار والكواكب. حين تدخل عالم الداخل تختفي الاشياء والاشكال والالوان ولا يبقى سوى المحيط. في هذا المحيط لا فصل بين موجة وأختها لان الكل عائلة واحدة تتشارك في الوجود نفسه. في هذا المحيط السعادة تكمن في المشاركة وليس من خطيئة اكبر من القطع والانفصال. هنا لا تصلح اللغة." وتابع قوله "كنت كلما دخلت الى هذا المحيط في لحظات الفتوحات رأيت كيف تتساقط امامي الاشياء. سقطت الاديان.. سقطت الفلسفات.. سقطت الطقوس.. سقطت التعاليم والمعلمون وسقط كل كلام عن الحرية والكرامة والسعادة وغيرها من الفضائل. لم يبق شيء.. فماذا اقول واللغة لا تصلح؟" يختم قيصر المقدمة القيمة بالدعوة الى دخول عالم النفس فيقول "يا عزيزي القارىء.. لا تقرأ هذه النصوص كما تقرأ الكتب. حاول ان تجد في النص ما يبدل آفاق الداخل.. ما يحول القلب الحجر الى قلب حي. اذا لم يحولك النص هذا فارم الكتاب وامش في نزهة اخرى." نبدأ مع الشاعر قصائده المرقمة فنقرأ في القصيدة الاولى قوله "هذه الكتابة تاريخ سحري/ لا ارقام فيها ولا تواريخ/ انها حكاية الصوت الداخلي/ لا يأتي من النبع/ لانه الينبوع الاول/ يأمر الجبال كأنه ارساها/ لان له قوة من سواها/ انه الصوت البشري/ بعد ان امتلأ بالكوني يقول لي:/ ان الكتاب مفتوح لك وحدك: فاقرأ/ ان الباب مفتوح لك وحدك/ فادخل." ننتقل الى القصيدة التي تلها فنقرأ/ هذه الكتابة حكاية/ حكاية الرحلة الجوانية/ تعرفون كما اعرف/ ان لا بداية للحكاية ولا نهاية/ تخبرنا ان السهم يعود/ من الهدف الى نقطة الانطلاق/ في رحلة دائرية/ ومن يعرف اين تبدأ النقطة/ على محيط الدائرة واين تنتهي؟/ بين النقطة ومركز الدائرة حبل مستور/ مشدود بين البداية والنهاية/ بين الامس واليوم/ ولا يمشي عليه الا الساحر البارع/ لانه اتقن التركيز/ على هذه النقطة بالذات/ ان فكر بالماضي سقط/ وان فكر بالاتي سقط/ هنا والان يكون او لا يكون/ فان ادرك التوازن/ انجلى بصره وبصيرته/ ودخل في كل لحظة/ رحاب العز/ ورحابة المحبة." ونقرأ في مجال اخر "هذه الكتابة سحر/ لا يطال الظواهر الخارجية/ بل التشابكات الجوانية/ ويختمر في الصمت والخلوة الحلوة/ هناك تأتيه شجاعة الانطلاق/ شجاعة كشف الخفي/ شجاعة الخروج من الحدود/ شجاعة الذوبان في الاشياء وشجاعة الانتصار على اوهام اللغة/ فيلغي "الانا" و"الأنت"/ "نحن" و"هم"/ شرق وغرب/ شمال وجنوب (ويصل الى رأس الهرم صارخا:) رباه. ما دمت اقرب من حبل الوريد: فماذا بعد اريد؟/كفاني ان لي القلب الجديد/ والبصر الحديد." وفي قصيدة اخرى نقرأ "انت الالف والياء/ ونحن الحروف المتناثرة/ نعيش في انتفاضة النزق/ وميول الهوى/ نبحث عن كلمة تجمعنا/ يكون لها الارتجاج المقدس/ والهوس الشهي/ لتحملنا الى شواطىء الحدس اللينة/ وتنفذنا من الارتباك والشك." ويكمل قيصر عفيف في موسقة وايقاع قد لا يتوفران لكثير من قصائد النثر الحديثة فيقول "من يعتنق حرفا ويحارب آخر/ او من يعتنق لونا ويحارب آخر/ تجره العتمة ويقع في فراغ المعنى/ يعش في الصدع بلا سقف/ ويمت في الحياة بلا قبر. "المجد لمن يعشق كل الالوان/ من ابيض السلام حتى اسود القبور/ وكل الحروف من الالف الى الياء/ لانه ينجو من الخلخلة والرخاوة/ ينمو في طراوة الاخضرار/ لا يمسه يباس/ تنبض بين اصابعه الحروف والالوان/ لانه يحمل فانوس المحبة/ يبدع اللوحة الاحلى على جدران الزمان/ والكلمة الكاملة في كتاب الصلاة/ الكلمة الومضة." وننتقل الى قصيدة اخرى فنقرأ "استطيع الان/ ان اروي القصة كاملة/ ان امحو صدأ الجهل واصداءه/ ان اغرف من قصعة الحكمة/ عسل التجليات وخبز الفتوحات/ كانت الطرق صعبة وشاقة/ كانت الابواب موصودة/ والاشجار مرصودة/ لكني لم اتلكأ ولم اتململ/ خرجت من صراعات المصادفات/ الى الهدف الاكيد والفضاء السعيد/ لولا مصالحة الذات/ ومصافحة الاخر/ لما كان خروج/ لما وجدت البوصلة/ ولما حصدت الكلمة الضائعة."