ذات يوم، ذهب بعض تلاميذ بوذا إليه يزفون نبأ نزاع جدلي نشب بين جماعة من النساك وبعض العلمانيين حول جملة من القضايا، بعضهم يقول أن العالم أزلي لا نهاية له فيرد آخرون أنه آيل كشأن كل المخلوقات إلى زوال، ويقول بعضهم أن الروح تفنى بفناء الجسد، فيرد آخرون بأن الروح كائن أزلي لا يفنى ولا يتحلل. فذهب بوذا إليهم، وقص عليهم قصة أمير هندي أمر حراسه ذات يوم بالذهاب إلى مدينة سافاتي وجمع كل العميان وإحضارهم فورا إلى بلاطه، وحين اجتمع فاقدو البصر بين يديه، أمر الحارس أن يأتي بفيل ضخم فيجعله بينهم، وطلب من العميان أن يصفوا الفيل الذي لم يكن مألوفا لأي منهم. فأمسك أحدهم برأسه وقال: "الفيل كالوعاء الضخم،". وأمسك أحدهم أذنه وقال: "كذبت، إنه أشبه بمذراة الحنطة،". لكن من أمسك نابه كان له رأي آخر، فقال: "كذبتما والله، ما أرى الفيل إلا نصل المحراث". وأمسك آخر ببطن الفيل، فتعجب من جهل رفاقه، فقال: "أيها البلهاء، الفيل أشبه ما يكون بمخزن الحبوب". أما الذي أمسك بخرطوم الفيل، فقد ظن أن لديه فصل الخطاب، فقال في ثقة: "بل هو آلة تشبه المحراث". ولم ينته الجدل ولم يتوقف الخلاف. عندها أحس المتخاصمون بالخجل من أنفسهم وعادوا أدراجهم. جدلية هي الحياة، وأجمل ما فيها تلك الخطوط المتباينة في الرأي والرؤية لأنها تمكننا من صياغة بلايين الخرائط الذهنية والحكايا الطريفة التي تهب الحياة جدتها وثراءها كل يوم. وغبي جدا من يظن أنه يمتلك كل الحقيقة لأن الله وحده استأثر لنفسه بالعلم المطلق. ومحدودية قدراتنا التي تغلق عنا الرؤية الصائبة والبصيرة النافذة تدل على إبداع إلهي لامتناهي يمنحنا الفرصة للتعرف وتجاذب أطراف الحديث لنعلم من الآخر ما لم نكن نعلم. أما الحقيقة المطلقة التي حجبها الله عنا في الحياة لا تتناسب أبدا مع محدودية وظيفتنا البشرية على الأرض. علينا أن نعمل أذهاننا إذن كي نصل إلى الحقيقة، ولكن ليس من حق أحد الادعاء بأنه يمتلك حقا مقدسا في السطو على فكر الآخر أو معتقده تحت أي ذريعة كانت، فقد خلقنا الله أحرارا حرية تستوجب المسئولية يوم أن نلقاه. ومحاولة الواحد منا للوصول إلى أكبر قدر من المعرفة تظل محاولة محفوفة بإمكانية الفشل مع كل خطوة ما لم يكن له من الله برهان. ولهذا، لا يجب أن يتفاخر أحد على أحد بما لديه من علم لَدُنّي لأنه يظل مهما عظم علما محدودا محدودية قدرة العميان على وصف الفيل. لذلك لا يجوز أن يستشعر المخلصون الزهو بما وصلوا إليه من يقين ولا أن يتعالوا على غيرهم من اللادينين أو المتشككين، بل الواجب أن يسعوا قدر إيمانهم كي يضعوا أياديهم على أكبر عدد من بؤر الحقيقة وأن يزودوهم بمجسات المعرفة كي يصلوا معا إلى بر نجاة من الانحراف الفكري مع تيارات الفكر غير المعتدلة. ولا يجب أن يحقر المرء ما لدى الآخرين من بضاعة فكرية قد تربو على ما لديه لو وزنها بميزان الحيدة والإنصاف. ليست معركة هي إذن بين الإسلاميين والليبراليين ولا بين إخوان وسلفيين وجيش وشرطة، فكل تلك العناصر مكونات أساسية في نسيج الوطن، وعلينا أن نجلس على مائدة حوار مخلص جميعا كي نناقش بموضوعية سبيلا واضحا للخروج من تيه الخلاف والاقتتال الفكري الذي يشبه اقتتال العميان في بلاط السلطان. وأن نتوقف قليلا عن رفع أصابع الاتهام في وجوه الآخرين ونعتهم بأوصاف لا يخلو منها فصيل من الفصائل المتشاحنة التي يصدق عليها قول المسيح عليه السلام:" من كان منكم بلا خطيئة،...". يقول أمبروز بيرس: "حين تتحدث وأنت غاضب، يمكنك أن تأتي بأفضل العبارات التي يمكنك أن تندم عليها للأبد".