لم أتشرف بمعرفة السيد أمين هويدي عن قرب، لكنه جذب اهتمامي بمقالاته المنتظمة في الأهرام والأهالي لسنوات طويلة! أمين هويدي الذي رحل عن عالمنا يوم السبت الماضي كان واحداً من الضباط الأحرار، كما شغل مناصب مهمة وخطيرة ومؤثرة: رئيساً للمخابرات العامة ووزيراً للحربية في نفس الوقت، وزيراً للإرشاد القومي، ووزيراً للدولة لشئون الأزهر، وسفيراً لمصر في الرباط (المغرب) وبغداد (العراق)، كما كان عضواً في لجنة العمل اليومي التي كانت تتولي إعداد التوصيات للرئيس عبد الناصر، فيما يتعلق بأمور الدولة. كان أول كتاب اتيح لي قراءته من تأليف السيد أمين هويدي هو كيف يفكر زعماء الصهيونية، الصادر عن دار المعارف في سبعينيات القرن الماضي، وكان ما كتبه الرجل وقتها بمثابة أول نافذة علمية رصينة جادة أتاحت لي أن أفهم عقلية العدو الصهيوني وأبرز زعاماته وكيف يفكرون وماهي رؤيتهم عن العرب!! لقد أصدر أمين هويدي أكثر من عشرين كتاباً وكلها جديرة بالقراءة والحفاوة والاهتمام، منها كنت سفيراً في العراق وحروب عبد الناصر ومع عبد الناصر والفرص الضائعة وأحاديث في الأمن العربي الخ . أما سيرته الذاتية ومشواره السياسي وهو 50 عاماً من العواصف: ما رأيته قلته والذي صدر عام 2002 عن مركز الأهرام للترجمة والنشر فهو كتاب مليء بالحكايات والمواقف والذكريات والطرائف علي كل لون!! وكلها مليئة بالعبر والمواعظ والدلالات الإنسانية والسياسية!! لكن قراءة مقدمة الكتب شيء مختلف، إنها قطعة مكتوبة بحبر الصدق والشجاعة، في هذه المقدمة الإنسانية والأدبية يقول أمين هويدي: في إحدي ولايات الهند اختلف رجال الدين ورجال العلم عما إذا كانت الدنيا خالدة أبدية أم إنها غير أبدية ولها نهاية، فأراد الراجا أو الأمير أن يحسم الخلاف، فطلب من خادمه أن يأتيه بعدد من العميان ففعل!! وطلب الراجا من العميان أن يلمس كل منهم طرفاً من فيل وضعه أمامهم. أحدهم لمس الرأس فقال إن الفيل يشبه قدراً، وقال الذي لمس الأذن إنه يشبه سلة، وقال الذي لمس الناب، إنه يشبه محراثاً، وقال الذي لمس الخرطوم إنه يشبه أنبوباً ما، وقال الذي لمس الجسم إنه يشبه جداراً، وقال الذي لمس الذيل إنه يشبه حبلاً، وقال الذي لمس الشعر علي طرف الذيل إنه يشبه فرشاة!! وعاد العميان إلي خلافهم وعلا صراخهم، وأخيراً تدخل الراجا الحكيم ليحسم الأمر بينهم فقال: إن مغزي التجربة أن الناس يرون جانباً واحداً من كل موضوع ثم يختلفون لأنهم عميان، إذ يري كل إنسان من الأحداث ما يهمه ويعمي عما يهم الآخرين، فالإنسان حتي إذا لم يكن أعمي بصر فهو أعمي بصيرة! كانت تجربة الراجا الهندي في مؤخرة رأسي وأنا أسرد الأحداث التي واجهتني في طريق كفاحي الطويل والصعب، ذكرتها كما رأيتها وعشتها، وحينما وصلت إلي النهاية تساءلت: تري أي جزء من جسم الفيل تحسست؟ ولكن عزائي إنني لست أعمي البصر ولا أعمي البصيرة، ولذلك فإنني أدرك تماماً أن أي جزء لمسته وتحسسته هو جزء من جسم فيل! ويضيف أمين هويدي: وأحب أن أؤكد إنني لم أؤرخ للفترة التي خضت فيها التجربة، بالرغم من أنني أحد صناع بعض أحداثها، فما رأيته قلته، وما سمعته رددته دون أي محاولة لتسييس الأحداث أولي الحقائق أو تطويع ما جري لأهداف شخصية، بل أحب أن أقرر أنني كنت عازفاً عن تدوين هذه الأوراق، رغماً عن الحاح أسرتي الصغيرة وعلي رأسها السيدة حرمي التي حضرت وشهدت وسمعت كثيراً مما جري، ورغم محاولات الأصدقاء ومن يهمهم الأمر، وأخيراً وحينما أذن الله عزمت وتوكلت وأرجو أن أكون قد أديت الأمانة وكشفت عن جزء من الحقيقة، التي أشعر إنها عانت مما زاد في حيرة الناس وشكوكهم فيما جري! عمر التجربة 50 عاماً، نصف قرن جرت فيه مياه كثيرة وأحداث متعددة ومتنوعة تعاملنا معها بوسائل مختلفة تتناسب مع الظروف والأحوال تنقلنا معها من أيام كانت فيها المظاهرات سلاحاً لمقاومة الاستعمار والطغيان، إلي مرحلة دخلنا فيها إلي دنيا العسكرية ليعاد تشكيلنا من جديد لنواجه التهديدات بالسلاح الذي أصبح في يدنا، ثم كانت القضية الكبري التي قادها عبد الناصر لمواجهة ثالوث التحكم المتمثل في الملكية فيسقطها، والاستعمار فيزيله والاقطاع فيفككه، ثم اقتحمنا مجال السياسة بالمفاهيم التي سادت في تلك الفترة، ودلفنا إلي شوارع الوحدة نحاول تحقيق الحلم الذي راود شباب تلك الأيام. شاهدنا انتصارات كثيرة باهرة، وعاصرنا هزائم قاهرة، مارسنا السياسة المكشوفة ونحن في السلك الدبلوماسي وعملنا في مجال السياسة التحتية ونحن في ردهات المخابرات، وقاتلنا في حروب عادلة من أجل مصر والعروبة كافحنا بالكلمة أحياناً، وبالطلقة أحياناً أخري، وتعثرنا في طريق السياسة الصعب المليء بالحفر.. ولكن لم تسقط الأعلام من يدنا ولم نهزم من داخلنا، وداومنا السير تحت أعلام الحرية والعدالة الاجتماعية والوحدة التي كنا نحملها مع عبد الناصر.. حتي السجون دخلناها وجربناها لأن الحصون لا تسقط إلا من داخلها، فالشروخ الداخلية هي التي تسمح بالاختراق الذي يؤدي إلي السقوط!! وأخيراً يقول السيد أمين هويدي: سنوات كفاحي طويلة، ومجالاتها متعددة أقدمها صادقاً في كل كلمة دونتها، ولا أدعي أن لدي من البصر والبصيرة لأمسك وحدي بفيل الراجا ولكني بالقطع تحسست جزءاً كبيراً منه، فالحقيقة لا يملكها فرد واحد ولكن تملكها جماعة شرط أن يكون أفرادها صادقين. مقدمة أمين هويدي درس ينبغي فهمه وتأمله، وحكاية الفيل نفسها درس آخر لا يقل أهمية، فلكل منا فيل يفسر له ما يريده. أنت لديك فيل، والحكومة لديها فيل، والمعارضة لديها فيل! عزيزي القارئ هل عندك فيل؟!