ما أكثر الأفلام التي تحدثت عن الثورة.. وما أقل الأفلام التى أجادت الحديث عنها حقاً. تحضرنى هذه المقولة الشهيرة وأنا أعيش غمار هذه الثورة الخارقة للعادة والوحيدة بين ثورات العالم.. اشهد جهودا كيف يمكن لشعب شاب صمم أن يستعيد ثورة ضاعت منه.. وكيف استطاع حقا بمعجزة الاصرار والصبر والتحدى أن يصل إلى غرضه.. وأن يحقق لوحده ما لم يحققه أى شعب فى العالم غيره. فى غمرة هذه الدهشة وهذا الانبهار الذى يقطع الأنفاس والذى كنت أعيشه رغم الأزمة المرضية الحادة التى كنت اعانى منها.. عدت إلى ذاكرتى السينمائية محاولا أن أجد فيها ما يشبه ما تعيشه مصر وشبابها هذه الأيام. فيلم واحد.. مثير ومدهش استوقف انتباهى.. وجعلنى اتمنى أن يولد لدينا مخرج موهوب يحن لثورتنا الفريدة.. ما حققه هذا الفيلم للثورة الفرنسية. الفيلم.. ويا للعجب.. يتحدث عن الثورة الفرنسية ويحللها وبمنطقها وينظر إليها بمنظار حماسى وفلسفى وانسانى وشاعرى فريد فى طريقته وأسلوبه.. ومع ذلك وهنا يكمن العجب الذى أشرت إليه.. مأخوذ عن مسرحية كتبها مسرحى المانى عبقرى هو جورج بوخنر.. الذى مات فى ريعان الصبا.. تاركا وراءه عدة مسرحيات أصبحت كلها من التراث العالمى الانسانى الذى يصعب مقارنته أو الوصول الى مستواه كمسرحية (فوزبك) و(بنتسفالي) وخصوصا هذه المسرحية التى نحن بصددها اليوم وتحمل اسم (موت دانتون) ودانتون هو واحد من مفجرى وزعماء الثورة الفرنسية والذى كان من أوائل ضحاياها.. والمسرحية المدهشة التى كتبها بوخنر.. تحولت إلى فيلم سينمائى أخرجه المخرج البولندى الكبير (اندريه واجدا) .. عاهدا بطولته إلى نجم نجوم فرنسا آنذاك جان بلموندو.. إلى جانب كوكبة شهيرة من الممثلين البولنديين على رأسهم ممثل بولندى مخضرم يمتلك ناحية الحضور والقوة والتأثر.. ليلعب دور رويسيير الثائر الصارم الذى واجه دبلوماسية دانتون ودعوته لثورة سلمية تقوم على مبادئ انسانية ثابتة.. لا لسياسة عنف ودماء ووحشية لا مثيل لها كان يظن أنها الوسيلة الوحيدة لاثبات دعائم الثورة الوليدة والقضاء بحزم وقوة على جميع من يقف فى وجهها.. حتى لو كان بينهم أبرياء أو مسلحون فى سبيل اقامة عرش ثورى لا ينهض إلا إذا اريق على جوانبه الدم. هذا الصراع بين مبدأين.. وبين فلسفتين وبين اتجاهين.. تعرفهما كل الثورات أجاد «واجندا» التعبير عنه سينمائيا بصورة جعلت من سطور بوخنر (صواعق) كهربائية تشغل المتفرج فى كل لحظة.. وتعيده إلى سماء السنوات التى يعيشها بعيدا عن الثورة الفرنسية التى يفترض أن الفيلم يروى أحداثها. اندريه واجدا الذى انبثقت سينماه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وعرف شهرة ليس لها حدود فى بلده وخارجها وظل فيلمه (رماد وماس) ايقونة من ايقونات الثورة والحرب والسلام فى بلده بولندا، اتبع هذا الفيلم بعد ذلك بسلسلة طويلة من الأفلام المدهشة التى تحدثت عن مشاكل بولندا القديمة والحديثة قبل أن يقدم فيلمه الشهير (رجل من حديد) الذى فاز بالسعفة الذهبية فى مهرجان (كان) .. فى احدى سنواته المجيدات. واجدا.. اطل على الثورة الفرنسية من عذوبة انسانية وفلسفية وثورية معا.. ورسم من خلال فيلمه (خريطة طريق) لأب ثورة قامت أو ستقوم فى العالم بعد ذلك. ثورتنا المصرية المباركة التى قادها شباب مصر وشابانها اعادة إلى ذهنى رائعة (واجدا) تري.. هل ستنجب هذه الثورة الخارقة للعادة (واجدا) مصرى يعبر عنها سر.