قارئى العزيز.. كما يفعل وكيل النيابة اليائس عندما تعييه الحيل ويخذله قانون البشر، فتشت فى أوراقى كثيراً بحثاً عن قليل من العدل يكفى لإقامة محاكمة لا تعترف بقانون الإجراءات ولا يعنيها ثغراته التى أشاعت الظلم أكثر من الظالمين أنفسهم؛ فقضايا محكمة التاريخ لا تسقط بالتقادم، ويُمنَح فيها المدعون بالحق المدنى من حسن البيان ما يليق بأن يسطر فى صفحاته.. وهذا خامس المدعين من طابور طويل.. - لتتفضل.. المحكمة تعطيك الحق فى مخاطبة المتهم بنفسك.. ولتبدأ الجلسة... محكمة.. - عفواً سيدى الرئيس.. أنا الباشا.. هكذا ينعتنى الجميع.. فى أحد طقوس التأليه لكل ما هو سلطوى كجزء من موروث ثقافة شعب احترف عبادة الفرعون.. ككل الصبية حلمت بالبدلة العسكرية.. بهيبة منسوجة فى خيوطها.. برمز للوطن ألمحه فى بريق نجومها.. وبقدر ما أسعدنى بقدر ما حيرنى انخفاض سقف المجموع اللازم للحاق بكلياتها لدرجة الريبة فهل يؤهلون بلداء الوطن لتولى مقاليده.. و الإجابة غير معلنة فالمعايير تصل لحد النجاح الأدنى للثانوية العامة حتى يتسنى (للخيبانين) من أبناء السادة صناع القرار اللحاق بآخر عربات قطار السلطة.. ولا يهم ما قد تجلبه 50% من نوعيات فكرية لقيادة المستقبل. عائلتى ميسورة لكن بلا سفراء بأروقة السلطة فخضعنا لتسعيرة عضو مجلس الشعب الشهير.. وتمت الصفقة لأتجاهل مَراراً فى حلقى مدركاً أن هنالك من غُدر حقه عندما اشتريت مكاناً يستحقه حتى لو ظل مجهولاً لى.. يضاف وعد أن تكون النيابة اختياراً مستقبلياً مطروحاً.. لكنه الأعلى سعراً... أتذكر سلفاً صالحاً كانوا يهرعون للوالى عندما يصطفيهم للقضاء صائحين: «ماذا صنعنا حتى توردنا مواطن الهلاك؟!». عفواً سيدى الرئيس.. وكما فى الحبس مظاليم.. فى السلطة أيضاً.. ففى عهدك تقاضى زميل دفعتى الأقل اجتهاداً وتفوقاً عشرة أضعاف راتبى لمجرد اقترابه من بلاط القصر.. أما القيادات العليا فقد فاق راتبها ما يتقاضاه رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسه.. بينما أجاهد حتى لا أريق ماء وجهى بحثاً عن مصدر دخل إضافى فامتلكت ميكروباص وشاركت فى محل بمنطق «حمارتك العرجا» التى لم تستطع فى أغلب الأحيان أن تغنينى عن سؤال نظام أكثر لؤماً. الجنيه الجبس هو عملة أكرهت على التعامل بها فى معادلة مستحيلة للحياة بكبرياء جريح.. وتحت مسمى المجاملة أضطر لقبول ما يشوب مهنيّتى وحياديتى ويجعل على رأسى بطحة ألومك أنت عليها قبل أن ألوم نفسى. عفواً سيدى الرئيس.. أعترف أننى فى ظل افتقار وسائل الاستدلال وتقنيات اكتشاف الحقائق، اجتهدت بحسى الشرطى بعد أن تركْتَنى أعزلَ من كل تطورات العصر.. فكنت مُكرَها للجوء للطرق الأكثر بدائية لانتزاع اعتراف المتهم.. يلهبنى سوط المطالبة بإنهاء القضايا الباحثة عن حلول.. لنعود لزمن تعذيب الكفار للمؤمنين فى أفلام الأبيض والأسود.. أفتخر بأننى كثيراً ما أصَبت ولكننى أيضاً -ككل البشر- أخطئ أحياناً. أعترف أننى كوّنت جيشاً غير نظامى من البلطجية والخارجين على القانون لحماية النظام فى ابتكار أمنى فريد بمنطق «أهل مكة أعلم بشعابها» فى منظومة هدفها الأول حماية الحاكم وحزبه لا إرساء قواعد العدل والمساواة بين مواطنيه.. عبر عن فلسفتها قرار أحمق يشى بفكر أكثر حماقة باستبدال شعار «الشرطة فى خدمة الشعب» بذلك الشعار المتعجرف «الشرطة والشعب فى خدمة القانون» متعالياً على الشرائع الإلهية وقوانين السماء التى سُخِّرَت لخدمة البشر. عفواً سيدى الرئيس.. أعترف أنى من اقتسم أحراز المخدرات وتهادى بها لأغيب عن وعى يجرحنى. أنا من أحضر أجهزة منزله لمعرض المضبوطات ليتفقدها مدير الأمن الذى كان يوماً يرتكب الفعل نفسه فى تمثيلية مكررة سخيفة. لكننى لم أتجرد من إنسانيتى فأصابنى الضغط والسكر وأنا عاجز أمام مأساة «جان فالجان» فى «البؤساء» تتكرر بأوجه عديدة فليت القضية رغيف خبز سرقه جائع أستطيع أن أسده عنه، بل قد يكون جهاز عروسة أسرفت أم جاهلة، غلبانة، فى شرائه بقسط لا يتعدى بضعة مئات تتحول بسببه لرقم فى سجن النساء. عفواً سيدى الرئيس.. أنا من لوت ذراعه الواسطة وجعلتنى أكيل بمكيالين وأحتمل حقارات (أولاد...) وإلا فمصيرى مجاهل الصعيد. أنا ضحية نماذج مريضة سادية الهوى لم تجد من يردعها لنوضع جميعاً فى زمرة واحدة رغم رفضى لأفعالهم. لكننى تعبت من مجاراتك ولملمة آثار أخطائك متحملاً اللعنات نيابة عنك، محاولاً رد هيبة دولة أريقت كثيراً على أعتاب رغباتك ورغبات عائلتك.. أستعيد ذكرى عسكرى الدرك وصيحة كانت تشيع أماناً لا تحققه مدرعات وقنابل جُلبت لحمايتك أنت لا الوطن. أتذكر قسماً عسكرياً لم تُعنِّى على الوفاء به.. رفرفة علم شامخ فى وجدانى.. شرف أحاول أن أكون أهلا له.. تلك جريمتك الحقيقية وأنا أكثر ضحاياك. مؤدياً التحية العسكرية يرحل إلى إحدى المهمات السرية.. يقوم بواجبه.. ليلقى حتفه فى صمت.. لكن الأقسى أن يلقى قدراً من الشماته فى شعيرة مستجدة علينا ليست من عرفنا ولم تكن يوماً فى قاموس أخلاقنا. يقف التاريخ عن الكتابة حزناً.. وتُرفَع الجلسة حداداً.. وللمحاكمة بقية... محكمة..