قارئى العزيز، كما يفعل وكيل النيابة اليائس عندما تعييه الحيل ويخذله قانون البشر، فتشت فى أوراقى كثيراً بحثاً عن قليل من العدل يكفى لإقامة محاكمة لا تعترف بقانون الإجراءات ولا يعنيها ثغراته التى أشاعت الظلم أكثر من الظالمين أنفسهم، فقضايا محكمة التاريخ لا تسقط بالتقادم، يمنح فيها المدعون بالحق المدنى من حسن البيان ما يليق بأن يسطر فى صفحاته، وهذه رابع المدعين من طابور طويل.. لتتفضلى أيتها المرأة، المحكمة تمنحك حق الحديث مع المتهم، ولتبدأ الجلسة.. محكمة. - عفواً سيدى الرئيس.. أنا سوسو، صديقة الطلبة، نعم، أعنى ما فهمته، ففى محكمة التاريخ الحرج مرفوع، ولن أرتدى برقع الحياء الآن وقد فقدته منذ زمن، لا تندهش أو تدعى السذاجة فأنا صنيعتك، أعرف أنه لولا عدالة التاريخ التى تفوق عدالات البشر، لظللت مغمض الطرف عنى متناسياً جريمتك بحقى، لكنك حتماً تدرك وجودى، ولكن الفرق أنكم تناقشون كل المشاكل وتتجاهلوننى، رغم أننى أول تجارة فى التاريخ، عندما استبد الرجل بذكوريته وحولنى إلى سلعة كأول خيانة للأمانة الربانية. ولدت فى منطقة عشوائية، تلك التى استجدت فى عصرك المبارك، عشش متلاصقة اعتاد سكون الليل أن يهتك ستر سكانها، يبوح بأسرار عشقهم، وتباريح غرامهم، رأيت أشياء فى غير أوانها، غرائز لا يلجمها علم أو دين، فكلاهما رفاهية فى عشوائية حياة تفضحنا فضيحة القطط، لنا قانون آخر غير ذلك الذى تدعون احترامه؛ أخ يغتصب أخته فى نوبة ضياع، أب يزنى بابنته فى استجابة لحظية لحيوانية البدايات، طبقاً لإحصائياتكم 25% يرتكبون تلك الجرائم الدخيلة فى عالم العشوائيات، وكأن الانحرافات الطبيعية لا تكفى لتزداد مصائبنا واحدة ولتزيد الطينة بللاً. - عفواً سيدى الرئيس.. تعجل خراط البنات ليضعنى فى مواجهة عالم لم أكن مستعدة له بعد جهلى وبراءتى وقلة حيلتى. أُُزف إلى شيخ يحمل 70 عاماً من العُقد والكبت المرضى فى صفقة بخسة لتوأد طفولتى، ثم يلقى بى فى الطريق حاملة دمية كنت أتمنى أن أحصل عليها ككل الأطفال، لكنها كانت تبكى وتصرخ بين يدى. طرقت أبواباً كثيرة بلا سند من علم أو مهارة أو حرفة. بلا ظهر من أخ أو أب بعد أن أضاعتهم المخدرات وأضاعتنى، بلا نظام يحمينى ويستر عرضى أو حتى يقومنى ويعاقبنى، وفى كل خرابة أجد بدل العفريت قبيلة، من بلطجية لمخبرين لأدرك أننى مباحة فى كل الأحوال. فلِمَ أكون بلا ثمن؟ قد يكون بخساً، فالبضاعة متوافرة من كل الأصناف، فتحت كل عمود نور توجد «سوسو»، وعند كل ناصية مظلمة توجد «سوسو»، وتحت زر لوحة مفاتيح شاشة شبكة التواصل الاجتماعى ستجد ألف «سوسو». قد تكون مثل حالتى؛ جاهلة مقهورة، جائعة، وقد تكون متعلمة، مثقفة، يائسة، طامعة، متطلعة، منتقمة، ناقمة، زنديقة، فاجرة، كافرة. قد تكون سافرة، متبرجة، أو محجبة، منتقبة، تخرج من مناطق لا ترى الشمس ومع كل خطوة تنزع جزءاً من ردائها وآخر من نفسها حتى تصل لأحد مواخير الشوارع الخلفية فى وسط المدينة ولم يبقَ عليها إلا آخر أوراق التوت. ولا تقلق فقد لا يكلفك الأمر أكثر من ثمن لا يزيد كثيراً عن وجبة سريعة. - عفواً سيدى الرئيس.. أفتش عن ابنى الذى ضاع وسط زحام سنين طويلة فقدت القدرة على عدها، سأعرفه بعلامة مميزة فى أعلى ظهره ربما تكون الحسنة الوحيدة فى حياتى. وأنا لا أبحث عنه حتى أجده، بل حتى أتأكد أنه لن يجدنى، فماذا لدى لأمنحه؟! ربما تكون قسوة الأيام أكثر رأفة به من نظام دهسنى وأورثنى عاراً، ثم وصمنى وعايرنى به. - عفواً سيدى الرئيس.. الجوع لا يرحم، ومحكمة التاريخ للأسف لن تمنحنى كسرة خبز، (بالإذن). وتنسحب مع زبون صغير (كحيتى) يريد أن يكتشف عالم الرجولة دون أن تلمح تلك العلامة المميزة فى أعلى ظهره. يقف التاريخ عن الكتابة حزناً من هول وروع ما يحدث.. وترفع الجلسة حداداً، فللموت أشكال أخرى قد تكون أكثر قسوة من موت الجسد.. وللمحاكمة بقية.. محكمة.