قارئى العزيز، كما يفعل وكيل النيابة اليائس عندما تعييه الحيل ويخذله قانون البشر، فتشت فى أوراقى كثيراً بحثاً عن قليل من العدل يكفى لإقامة محاكمة لا تعترف بقانون الإجراءات ولا يعنيها ثغراته التى أشاعت الظلم أكثر من الظالمين أنفسهم.. فقضايا محكمة التاريخ لا تسقط بالتقادم، يمنح فيها المدعون بالحق المدنى من حسن البيان ما يليق بأن يسطر فى صفحاته.. وهذا ثالث المدعين من طابور طويل. - لتتفضل أيها الرجل الوقور.. المحكمة تعطيك الحق فى مخاطبة المتهم بنفسك.. ولتبدأ الجلسة.. محكمة. - عفواً سيدى الرئيس.. أنا الخواجة.. هكذا يلقبوننى.. رغم أننى مصرى حتى النخاع.. جذورى ضاربة فى ربوع الوطن ودروبه.. ترانيم أعيادى ألحان فرعونية النغم.. عشت حياة هادئة مستكينة أكاد أن أشق الحائط لأمشى داخله لا بجواره.. أحترم قانوناً لا يبادلنى الشعور.. أنفذ أوامر السيد المسيح حتى سئم خداى الأيسر والأيمن أيضاً.. أفقد مساحات من وطنى داخلى بقرار سياسى.. فانتمائى لعمل أحبه وأستحقه لا يخضع لمعايير العدل والكفاءة والمهنية.. لكنه قرار سياسى.. تفوق أبنائى وفرصهم فى الحصول على حقهم بهيئة تدريس أو موقع علمى.. هو أيضاً قرار سياسى. أما المناصب السيادية فالمتاح منها يحتاج الجهد الأكثر أضعافاً للحصول على الأقل أضعافاً. - عفواً سيدى الرئيس.. لماذا تريدنى مواطناً من الدرجة الثانية أقبل ما يتبقى من أطباق يعافها بطانتك؟! يشاركنى الهم باقى إخوتى مسلمين ومسيحيين.. رغم أننى سددت فاتورة الوطن كاملة.. وكانت الدفعة الأخيرة فى سيناء.. أين كنت يا سيدى واليهود يعربدون على الحدود ويردون ابنى قتيلاً فى لحظة؟.. أنا لم أمنحك وكالتى الضمنية فى التمثيلية الديمقراطية المعتادة كى تهدر حياة جندى مصرى كان يقوم بواجبه بلا ثمن حتى لو كان ذلك الثمن هو مجرد اعتذار عقيم لم يطرحوه هم ولم تطلبه أنت. تركتنا لغول الجهل يطل علينا من نظام تعليمى قبيح.. يتقاضى فيه المعلم راتباً أقل من وجبة عشاء نصف فاخر.. فتحولت العقول الحائرة فريسة لأفكار وافدة من حيث لا يريدون لنا خيراً.. لتؤجج روح القبلية الذميمة. شروخ تتسلق جدار القلب مع تلك التى ملأت جدار كنيستى ولا أستطيع رأبها إلا بقرار جمهورى.. محرابى هو قلبى.. فمتى أصبحت العبادة بصك ملكى؟! - عفواً سيدى الرئيس.. أشهد أنك نجحت فى أن يكون حلم باقى أبنائى الوحيد هو الرحيل إلى أى بقعة فى الأرض إلا الوطن.. فبعده كل البلاد سواء.. تتساوى فيها كل الأشياء.. الشمس والماء والهواء ولكن هناك أجد ما لا أجده فى وطنى: الأمل.. فرص عادلة.. اجتهاد مثاب.. حياة محفزة للطاقات.. تحديات يقبلها المنطق.. ظلم له حدود.. وهكذا تتباعد مواسم العودة أكثر فأكثر.. لتصبح مجرد زيارات خاطفة بصحبة كائنات جميلة لكنها مهجنة لا تفهم حديثنا.. دعاباتنا.. لا تحزن حتى مثلنا.. أفقد جزءاً من متعة التواصل مع أحفاد لا ينطقون كلمة «جدو» كما كنت أحلم بها.. ينقسم انتماؤهم لنصفين.. أشعر بغيرة من أخريات تربصن بأبنائى على نواصى العالم بعيون زرقاء باردة.. وقوام قوقازى ساحر.. وجنون بنات العم سام ورقصهن على الطموحات قبل المشاعر. تتناقض أحاسيس الفخر داخلى بنجاح أثمر بعيداً عن بساتين الوطن.. أشعر بحسرة على أم نشفت ضروعها عجزاً وهرماً وجلست خالية الوفاض فى مواسم الحصاد. أتساءل فى حيرة: هل لو تآمر الخائنون كانوا سيتمكنون من تصميم نظم طاردة للتنمية منفرة لرؤوس الأموال والخبرات بشكل أكثر إبداعاً من نظام كنت أنت على رأسه؟.. أشك!! يتملكنى حنين أسلمه ذاتى.. وأحلام عودة لا تغادر الوجدان.. أخطط لمستقبل لا أستطيعه بدونها.. يندهشون: لم يعد لنا بها شىء.. أثور: بل لى فيها الكثير.. ولها فىَّ الكثير.. فالإنسان ليس له إلا وطن واحد.. وسأظل أشتاق لضوء شمس ليس لها مثيل.. لأسرار أمنت عليها النيل.. لشجرة أول حب.. للمة أصحاب العمر.. لأحلام البناء القديمة.. لوعد تركته هناك.. تعرف أننى لن أنساها.. وسأعود يوماً. - عفواً سيدى الرئيس. أنا العظمة الزرقاء.. قهرت قيودى وانتصرت على الغاصب.. مددت يد الحب لوافد من بلاد العرب ساندته وساندنى خبأته فى أديرتى وقلبى.. ارتضيت بلوائه حباً وكرامة. وبدأت صفحة جديدة من التاريخ تعانقت فيها مآذن مع أبراج.. واختلطت الأنساب حتى صرنا أيقونة حب تتحدى عالماً يقوده جنون الطائفية الأحمق.. فماذا صنعت بالكنز.. هل أسعدك حصاد «فرق تسد»؟! لا أنت فرقت ولا أنت سُدت.. ويبقى الوطن. وتحين مواسم الرجوع.. ولكن فى صندوق أنيق.. إنها الرغبة الأخيرة.. والوعد الذى يجب أن يوفَّى.. كانت تعرف أنه لن ينساها وسيعود يوماً.. وقد عاد.. فالإنسان ليس له سوى وطن واحد. يقف التاريخ عن الكتابة حزناً.. وترفع الجلسة حداداً.. وللمحاكمة بقية.. محكمة.