قارئى العزيز، كما يفعل وكيل النيابة اليائس عندما تعييه الحيل ويخذله قانون البشر، فتشت فى أوراقى كثيراً بحثاً عن قليل من العدل يكفى لإقامة محاكمة لا تعترف بقانون الإجراءات ولا يعنيها ثغراته التى أشاعت الظلم أكثر من الظالمين أنفسهم، فالقضايا فى محكمة التاريخ لا تسقط بالتقادم، ويمنح فيها المدعون بالحق المدنى من حسن البيان ما يليق بأن يسطر فى صفحاته..وهذا ثانى المدعين من طابور طويل. - لتتفضل أيها الشاب الأسمر الصغير، المحكمة تعطيك الحق فى مخاطبة المتهم بنفسك، ولتبدأ الجلسة.. محكمة. - عفواً سيدى الرئيس.. ليس لدىّ ما يثبت اسمى، فقد رفضتَ منحى بطاقة هوية.. أو اسماً يذكر فى الأوراق الرسمية. أنا من «راس حدربة»، قرية صغيرة فى أقصى الجنوب عند آخر نقطة من حدود الوطن بحلايب وشلاتين، فى بقعة لا تعرف ماذا تعنى كلمة هوية، فنحن مذكورون على الخرائط منسيون فى الحياة، يمر علينا من حين لآخر أناس طيبون يهدوننا بعض الأشياء نرتديها، وأخرى نأكلها لا أعرف لها اسما، ورغم امتنان لا ينكره إلا جاحد، يمنحوننى دون أن يدروا لقب «متسول المواطنة»، يمنحوننى مهانة اليد السفلى بعطايا تُقدم لى فضلاً، وليس حقاً أناله كرامةً وعزة مثل أخى فى سائر بقاع الوطن.. حتى عندما نمر فى سفرنا القليل لمدن الحياة على الوحدة العسكرية يتم تفتيشنا بريبة ومبالغة تجرح وطنيتنا، فى مهمة البحث عن شىء لم يجدوه أبداً فى متاعنا القليل، إنه الخيانة. - عفواً سيدى الرئيس.. أنظر إلى ما تبقى من آثار الأجداد، ألمح لون بشرتى على جدار المعابد منحوتاً، أفرح، لقد كنت هناك أشارك فى بناء التاريخ، لى جذور فى بطن تلك الأرض، فمن منحك حق نسيانى. أتذكر يوماً وجدت الصغار يمسكون بقطعة قماش كانت معلقة على أحد المبانى القليلة المهجورة لدينا، والتى لا نعرف لها اسماً، وقد مزقتها الرياح فإذا هم يلوحون بها مهللين أهلى أهلى، لملمت علم بلادى وحملته إلى دارى.. وعلى ضوء مصباح الغاز الخافت.. أنسج ما تبقى منه.. لأنسج معه ما تبقى منى ومنهم، فتلك حدود معرفتهم بالوطن، فكل مكتسباتنا المعرفية بالحياة هى من أدب الرحلات القليلة لباقى الوطن وكأنها روايات ألف ليلة وليلة.. وأنا أجيد الكتابة ولكن على الألواح الخشبية، أنحتها بخط جميل، لكن لا أعرف كيف أمسك بذلك القلم ذى السن الرفيع، وكأن الزمان توقف عندنا ثم رحل وتركنا فى عصور الجاهلية.. تأتى السيول كل عام تماماً فى مواسمها، فتأتى وراءها مواسم وعود لا توفى، لتجرفنا آلام الإهمال والتفرقة أكثر من قسوة الطبيعة التى لا تخلف مواعيدها بينما يفعل البشر. يموت كثير من أبناء قبيلتى صغاراً بداء الكلى، فماء الآبار لا يرحم، ولا نستطيع الذهاب لذلك المستشفى البعيد، حيث لا أحد، أو طبيب ساخط على وجوده فيه لا يملك من الأدوية والصبر ما يطيب خواطرنا قبل جراحنا. أتحدث نادراً مع الغرباء، أقصد المصريين، عابرى السبيل القلائل.. أشاركهم لحظة حزن ووجوم، فأجهزة المحمول لديهم لا تلتقط سوى كلمة واحدة على شاشاتهم المضيئة.. أهلاً بك فى شبكة السودان. _ عفواً سيدى الرئيس.. أين كنت عندما أخذوا منى انتمائى ووهجاً لوطن أحمله بين ضلوعى، وحلماً ببطولة أسجلها ويفتخر بها أبنائى، وتاريخاً يذكرنى ولو بسطر صغير، بمجموعة أرقام هى تاريخ ميلادى وحدود وجودى مذيلة بقوميتى، أشعر بفراغ الكون من حولى، فأنا إنسان بلا عنوان، دليلى النجوم البعيدة التى هى أقرب لى من وطن أتوق إليه ويرفضنى، لا أملك شرف ارتداء الزى العسكرى، رغم أننى من القلة التى لا يسعدها ذلك الإعفاء الإجبارى، كنت أود أن أتباهى حتى باحتمال شرف الشهادة دفاعاً عن وطنى، فلا تسألونى عن الانتماء. ويهب من البحر بعض المهربين، يشعر بواجبه تجاه أرضه ووطن ينكره، يقف الشاب الأسمر الصغير يتصدى بشجاعة جندى غير نظامى، تخترق رصاصات تحترف الموت القلب العنيد، ويهرب الجميع. وتذيل الصفحة الأخيرة من التحقيق بمعرفة حرس الحدود عبارة مقتضبة: «تم العثور على جثة لشاب أسمر بلا أوراق هوية يُعتقد أنه أحد المهربين بالمنطقة»،وينتهى التقرير. يقف التاريخ عن الكتابة حزناً على روح شهيد رحل، بلا مراسم، بلا وشاح أو علم، بلا تحية عسكرية أو وسام مستحق، بلا جنازة لائقة، بلا اسم يذكر فى الأوراق الرسمية، بلا بطاقة هوية. رحل مظلوماً منسياً كما عاش، فكان قدره حتى الموت، وترفع الجلسة حداداً، وللمحاكمة بقية.. محكمة.