لا شك أن دفاع الفقيه القانونى الأرجنتينى «كارلوس كالفو» فى القرن التاسع عشر وحرصه على ضرورة أن يكون من اختصاص المحاكم الوطنية نظر الدعاوى الخاصة بالاستثمارات الأجنبية على أراضى الدولة، كان له بالغ الأثر فى وقته، بل أصبح «مذهب كالفو» Calvo Doctrine أحد أبرز الموضوعات التى رسخت فى أذهان دارسى وممارسى التحكيم الدولى بتنوع قواعده وهيئاته. وإذا كان «كارلوس كالفو» قد وضع اللبنة الأولى فى أولوية العلاقة بين المستثمر الأجنبى والمحاكم الوطنية، وتحريم اللجوء «للحماية الدبلوماسية» أو «التدخل العسكرى» لاستيداء الديون قبل استنفاد طرق التقاضى الوطنية، وهو ما ألهم لويس ماريا دراجو وزير خارجية الأرجنتين فى عام 1902 للدفاع عن عدم إمكانية تدخل الدول الدائنة فى فنزويلا لاستيداء الديون المتراكمة على الأخيرة. إن ما سبق يعلمه جيداً كل القانونيين المتخصصين فى التحكيم والاستثمار الدولى والقانون الدولى العام، باعتباره أحد القيود على «الحماية الدبلوماسية». لذا، فإن أكثر ما دفعنى لتناول هذا الموضوع هو الجدل الذى تشهده الساحة الدولية منذ سنوات حول اتفاقيات ومنازعات الاستثمار خاصة بعد أزمة الديون السيادية للأرجنتين ودعاوى التحكيم الجماعية، فضلاً عن صدور أحكام قضائية فى مصر ببطلان وفسخ علاقات تعاقدية مع مستثمرين أجانب، وتحديداً منذ عام 2011. وبما أن مصر تخطو للأمام باتجاه عهد جديد يبتغى العمل بأعلى مستويات من الكفاءة، فلا بد لنا أن نتعلم من الدروس المختلفة التى تعرضت لها دول أخرى ونتابع التطورات الدولية ولا نصبح بمعزل عنها عند قيامنا بصياغة علاقات صحية بالمستثمرين الأجانب على أسس واقعية وشفافة. وليس خافياً أن لدى مصر أعداداً غفيرة من اتفاقيات الاستثمار الثنائية، بعضها كان بحق لتشجيع جذب الاستثمارات الأجنبية، ولكن بعضها الآخر لم يكن سوى مظهر احتفالى لتتويج زيارة ثنائية لأحد المسئولين السابقين بهدف أن تطل علينا المنابر الإعلامية لتبشر بأن توقيع مثل هذه الاتفاقيات هو فتح مبين، وعمل عظيم، بينما الأمر فى الحقيقة يخلو من مضمون، بل يثقل كاهل الدولة بالتزامات لم يتضح عمقها فى حينه. ولعل الأمر الصادم وربما المحير هو ما يتضمنه عدد كبير من هذه الاتفاقيات لشرط «الأَوْلى بالرعاية» Most Favored Nation) MFN). فببساطة شديدة يفضى هذا الشرط إلى حصول المستثمرين المنتمين لجنسية الدولة الأجنبية الطرف مع مصر على أى مزايا إضافية تتضمنها أى اتفاقيات لاحقة تبرمها مصر مع دولة ثالثة. بمعنى أدق، فإن مستثمرى الدولة الأجنبية يراكمون تلقائياً المزايا التى تعطيها الدولة المصرية فى علاقاتها اللاحقة بالدولة الأجنبية الأخرى، وهو أمر يظهر بوضوح فى حالة نشوب نزاع، حيث يمكن للمستثمر الأجنبى التمسك بمزايا انطوت عليها اتفاقيات لم تكن دولته طرفاً فيها. قد يظن البعض أن الأمر لا يعدو كونه مسألة تتعلق بالمجالات التى تنطوى عليها الاتفاقيات الثنائية، ومن ثم لا غضاضة فى ذلك طالما تشجع مصر جذب الاستثمارات الأجنبية لتحقيق معدلات مرتفعة من النمو الاقتصادى بلوغ التنمية الاقتصادية المنشودة. إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة أو التسطيح، وذلك للاعتبارات التالية: أ- جنسية المستثمر؛ ويحددها القانون المنشأة بموجبه الشركة، وبالتالى فقد يقوم مستثمرون من دولة ما بتأسيس شركة وفقاً لقوانين دولة أخرى تجمعها مع مصر اتفاقية استثمار ثنائية، ثم تأتى هذه الشركة إلى مصر للاستفادة من أحكام الاتفاقية المشار إليها، وذلك بصرف النظر عن جنسية مؤسسى الشركة أو بعضهم. ومع ذلك، فإن الأمر ليس بهذه الخطورة لخضوعه لمفهوم الحماية الدبلوماسية فى صورته العكسية. ب- المقصود بالمستثمر قد يختلف عما يتبادر له ذهن الكثيرين، وهو أمر يخضع منذ سنوات طويلة لجدل وتجاذبات تشهد عليها أحكام هيئات التحكيم فى منازعات الاستثمار بموجب اتفاقية واشنطن لعام 1965 والمعروفة باسم ICSID، التى تشكل بذاتها فقهاً فى مجال منازعات الاستثمار. ج- نطاق تطبيق شرط الدولة الأولى بالرعاية MFN أصبح محلاً للجدل القانونى والقضائى، وذلك نتيجة صدور أحكام متعارضة من هيئات تحكيم الاستثمار بعضها ذهب إلى أن مثل هذا الشرط يرتبط بالمجالات الصناعية والخدمية والزراعية التى قد تتمتع بمزايا بموجب اتفاقيات الاستثمار الثنائية، وبعضها الآخر ذهب إلى أن ذلك الشرط يرتبط كذلك بالمسائل الإجرائية ومن بينها كيفية تسوية المنازعات، بحيث يمكن للمستثمر اختيار الطريق الأنسب والأقل تكلفة له، دون التقيد بما نصت عليه صراحة الاتفاقية بين دولته ومصر. قد يتضح مما سبق أن المسألة ليست بالبساطة التى قد يتصورها البعض، خاصة إذا أخذنا فى الاعتبار فتح الباب أمام الدعاوى الجماعية للمستثمرين Mass Claims مثلما حدث مع الأرجنتين (Abaclat and Others v. Argentina)، وقررت هيئة التحكيم باختصاصها نظر تلك الدعاوى التى تستند إلى تشابه العلاقة بين كل مستثمر والأرجنتين، وبالتالى فإن الأمر مرشح للتكرار فى حالات أخرى، وذلك على الرغم مما أبداه فقيه القانون الدولى -مصرى الجنسية- الأستاذ الدكتور جورج أبى صعب الذى كان عضواً بهيئة التحكيم من عدم اختصاص هيئة التحكيم وتجاوزها فى هذا الأمر. من هنا، يتعين علينا العودة لتأمل تطبيقات «مبدأ كالفو» فى مصر، الذى بدا واضحاً منذ عام 2011 أن معتنقيه فى ازدياد، ولكن ربما لم يكونوا على دراية ب«كالفو» حينها. ورغم أنه لا يخالجنى شك فى أن من حرّك دعاوى البطلان والفسخ، ضد مستثمرين أجانب وتعاقدات، لم تخلْ وجهة نظره من وجاهة رغبةً فى حماية موارد مصر وثرواتها، وربما ظنّ كذلك أن صدور أحكام قضائية وتنفيذها يعيد الثروات والموارد للشعب المصرى، إلا أن تلك المشاهد لا تعبر بدقة عن الصورة الأشمل. إن رد فعل المستثمر الأجنبى فى مثل تلك الحالات هو تحريك دعاوى وطلب تشكيل هيئات للتحكيم لنظر نزاع مع الدولة المصرية، وذلك لاقتناعه بأنه أبرم عقداً واستثمر فى ظل حكومة قائمة ولا قِبَل له بمدى قانونية أو حرفية أجهزة الحكومة آنذاك، فالمستثمر هدفه الربح ويسعى له، ولا تثريب عليه إن ارتكب الطرف الآخر ممثلاً فى الحكومة جرائم أو مخالفات أو أخطاء، ويخرج بالطبع من ذلك النطاق ارتكاب المستثمر الأجنبى أو ممثليه القانونيين أفعال مؤثمة سواء وردت بقانون العقوبات أو بقوانين أخرى ذات صلة. وبناء على ذلك، يجد متخذ القرار وواضع السياسات العامة للدولة نفسه فى وضع محير، ومن ثم يتعين عليه العمل على إيجاد وسيلة للتوفيق بين تلك الاعتبارات من أجل تحقيق المصالح الوطنية على أكمل وجه، وفض هذا الاشتباك من خلال عدد من الإجراءات الإدارية والقانونية التى يمكن أن تؤدى إلى مزيد من الانضباط والشفافية فى العلاقة مع المستثمر الأجنبى، وقد يمكن الانطلاق من النقاط التالية: - تفادى إسباغ التعاقد بطبيعة على خلاف الواقع؛ فبعض مسئولى الدولة على مر العصور حرصوا على الوجود وقت توقيع العقود بين الشركات المصرية ونظيراتها الأجنبية اعتقاداً بأن ذلك رصيد مضاف لإنجازات المسئول، بل يذهب بعضهم خلال مراحل التنفيذ إلى التدخل -بطلب من الطرف المصرى- فى أمر يتعلق بالعلاقة التعاقدية، وذلك من خلال توجيه المكاتبات أو الاتصال بالطرف الأجنبى لحثه على أمر ما. مثل هذه التصرفات قد يتم تفسيرها -حال نشوب النزاع- على أن الحكومة المصرية هى الطرف الفعلى فى التعاقد، وبالتالى تصبح الدولة طرفاً فى النزاع الذى يتحول لنزاع بين مستثمر ودولة طرف فى اتفاقية واشنطن لعام 1965. - إدخال الكثير من الشفافية عند تعاقد الدولة مع مستثمر أجنبى، أو عند السماح له بالعمل فى مصر، وهو المرجو من قانون الاستثمار الموحد الجارى العمل على إصداره قريباً. - تفادى توقيع اتفاقيات ثنائية جديدة لتشجيع وحماية الاستثمار، بل يتعين القيام بمراجعة القائم منها، بهدوء، والتعرف على نقاط الضعف فيها، وتحقيق الانسجام بين مختلف الاتفاقيات، وذلك على غرار ما بدأته دول عديدة. - النظر فى مراجعة قواعد الاختصاص النوعى، بحيث تُنظر منازعات الاستثمار أمام دوائر متخصصة فى مثل هذه الأنشطة، وهو ما قد يقتضى بالمثل مراجعة توصيف الوضع القانونى للدولة والوحدات التابعة لها كطرف فى التعاقد، للتفرقة بين صفتها كمعبر عن السيادة، والممارس لنشاط اقتصادى. وهذه النقطة تحديداً قد يكون من شأنها الاستجابة ل«مبدأ كالفو» وإغلاق -قدر الإمكان- الطرق المؤدية للقفز إلى التحكيم الدولى استناداً إلى الحجج التى يسوقونها مثل محاباة القضاء الوطنى للدولة ووحداتها أو بطء إجراءاته على حساب مصالح المستثمر، وهى من المسائل الشائكة التى لا تخلو من تعقيدات، وربما أبعاد عميقة. إن ما سبق لا يتجاوز مجرد العناوين الكبرى لعمل شاق وجهود مضنية يجب بذلها، ولعل بداية الطريق هى أن ننهل من أوعية العلم والمعرفة والتجارب السابقة للدول الأخرى، حتى نتمكن من الأخذ بأسباب التقدم. ومن أجل تحقيق ذلك، يتعين علينا تأهيل كوادر من تخصصات متنوعة لتضطلع بمهمة الارتقاء بالعلاقة بين الدولة والمستثمر الأجنبى وانضباطها، وذلك حتى لا يمثل التطبيق غير المتأنى لمذهب كالفو عبئاً مرتفع التكلفة على موارد المجتمع المصرى، ولا يكون تشجيع الاستثمار الأجنبى مجرد غاية بما يؤدى إلى آثار سلبية وافتئات على حقوق مصر وتبديداً لثرواتها.