كثيراً ما طُلب منى الكتابة أو الحديث عن خيرى شلبى، دائماً ما كنت أتهرب، للأسف لم أرث من أبى قدرته العظيمة على الحكى والبوح. فأنا أجد صعوبة فى إيجاد التعبير المناسب لما أريد أن أقوله، لذا كثيراً ما يصفنى بعض الناس بأننى قليلة الكلام، ربما لجلساتى الطويلة مع أبى واستماعى إليه لساعات وساعات. أحياناً كنت أذهب فقط لأسأله إذا كان يريد منى شيئاً قبل أن أنام وإذا بحديث ربما يمتد لساعات دون إدراك للوقت. غالباً ما كان يبدأ الحديث ب«بابا تشرب حاجة؟» «والله مافيش مانع من شوية شاى أخضر من غير سكر» ثم يكمل «إيه الكتاب اللى بتقريه دلوقتى؟»، ويمتد الحديث عن أى طبعة وأى ترجمة والفروق بين الترجمات ولماذا لم أكمل قراءة الرواية الفلانية، وتأنيبى على عدم قراءة كتاب معين حتى الآن. كنت لا أتعجب فهو لم يكن يقرأ جميع الكتب التى تقع تحت يديه فحسب بل ويقرأ الكتاب نفسه لأكثر من مترجم وأكثر من طبعة، وربما يمتد الحديث أيضاً إلى كيف تم اكتشاف الشاى كمشروب لأول مرة، وكيف كان جدّى يُعد الشاى على منقد «القوالح» وكيف أن مذاق الشاى يختلف إذا كان معداً على الفحم أو قوالح الذرة أو البوتاجاز. وأحياناً ما يفاجئنى وأنا أُعد له الشاى والحديث ما زال مستمراً بجملة ينطقها ببراءة طفل سوف يقوم بشىء دون علم والدته «تيجى ناكل بسطرمة؟» وأقاطعه مسرعة «بس ماما؟»، «ماتخافيش نامت..!». وأنظر إلى لمعة عينيه وهو يتكلم وأضحك ونضحك معاً لأننا سوف نأكل البسطرمة التى سينزل ويشتريها بنفسه «فى السر»، فأمى لا تطيق رائحة البسطرمة فى البيت. نوادر خيرى شلبى لا تنتهى والحديث معه لا ينتهى فهو لا يمل الحكى وأنا لم أمل من سماعه أبداً. عملت مع خيرى شلبى لفترة فى مجلة الإذاعة والتليفزيون، وكنت لم أكمل 17 سنة، وأعتقد أن هذه الفترة شكّلت الجزء الأكبر فى شخصيتى. فى هذه الفترة كنت قد بدأت تعلم القراءة والتفتيش فى مكتبة خيرى شلبى و«اللماضة» معه. هذا الكاتب أحب وهذا الكاتب أكره. وكم كان صبوراً معى وهو يسمع رأيى فى كاتب معين ربما هو يعتبره أستاذاً له، لم ينهرنى أبداً على رأى قلته، كان يسمعنى ويناقشنى بكل هدوء، ربما لم أكن أستجيب وقتها لكنى كنت أحتفظ بكلماته بداخلى لأجده محقاً فى النهاية. أبرز ملامح هذه الفترة هى مرافقتى له فى طريق الذهاب والعودة من المعادى حيث نسكن إلى شارع المبتديان حيث دار الهلال وبها مجلة الإذاعة والتليفزيون. كان خيرى شلبى حقاً موسوعياً فى معرفته بشوارع القاهرة وأزقتها وحواريها، لم يكن يلتزم بطريق معين، فكل الطرق عنده تؤدى إلى حيث يريد. وأنت لن تمل أبداً من التجوّل معه. لأن عند خيرى شلبى لكل شارع حكاية، ولكل شارع مواقف عاشها فيه، مروراً بلماذا سمى الشارع «كذا» ومن أطلق الاسم عليه. متعة التجول مع خيرى شلبى فى شوارع القاهرة متعة لا يضاهيها سوى القراءة له. أفتقد الحديث مع بابا وسهراتنا مع أشعار فؤاد حداد التى كان يحفظها عن ظهر قلب والتى سعيت لحفظها أنا أيضاً لألاحقه إذا نسى كلمة أذكره بها، ونادراً ما كان ينسى أبى. كنت أشعر به وهو يلقى أشعار حداد وجاهين والأبنودى كما لو كانت هذه كلماته هو وهو من قام بتأليفها لسلاسة إلقائه لها وتلك النظرة اللامعة فى عينيه. دائماً ما رأيته سعيداً بإنجازات أصدقائه ربما أكثر من سعادتهم هم أنفسهم بها، لن أنسى أبداً سعادته ب«حجرتان وصالة» لعم إبراهيم أصلان ولهفته وهو يحدثه فى الهاتف عندما أخبرته بأن الكتاب أعجبنى جداً وأمتعتنى قراءته، وصوته وهو يهلل له: «أنا هغير منك كده».. والله لم يكن ليغير أو يغضب من أحد أبداً فغضبه سريع جداً، وما إن يغضب حتى يهدأ وكأن شيئاً لم يكن. مواقف كثيرة كانت تحدث بينه وبين أحد من أصدقائه وكنت أظن أنه لن يحدّث هذا الصديق أبداً وربما تنتهى للأبد هذه العلاقة، وبعد أيام أجد فى مجلة الإذاعة «بورتريه» لصديقه هذا يتحدث عن الصفات الأجمل فيه. أشياء كثيرة سعيت لتعلمها فى حياتى حباً فى خيرى شلبى، كحفظ الشعر وحب الفضة والأحجار الكريمة التى كان يعطينى دروساً فى صفات كل حجر وكيف علىّ أن أحمل صفات كل حجر بداخلى. لأن الناس كالأحجار منها النفيس ومنها الرخيص. وعلىّ أن أختار بأى هذه الأحجار أتشبّه. «عم جاد الله يا عم جاد الله».. هكذا كان ينادينى بصفتى «الصبى بتاعه».. عندما كان يبحث عن شىء ولا يستطيع الحصول عليه.. إذا أراد كتاباً معيناً ولا يجده فقط ينادينى «عم جاد الله» ليجدنى أمامه بالشىء الذى يريده فيأخذ بغناء الاسم «عم جاد الله يا عم جاد الله». واليوم وبعد مرور عام على رحيله أشعر به فى كل مكان حولى.. على مكتبه.. فى حجرة نومه.. على كرسيه الهزاز.. أكاد أسمع صوته يأتينى من مكان ما وهو يغنى الليلة الكبيرة ويقلد مطرب المقهى «يا غزال يا غزال.. ياااااااا لييييل». أراه على مكتبه مبتسماً يطلب منى أن آتى ب «يحيى» حفيده الصغير «هاتى الواد أبوسه شوية على ما تعملى لى قهوة مغلية».. أراه على كرسيه الهزاز وهو يلفت انتباهى بحركة من يده أن شعره بحاجة للقص وعلىّ أن أسرع بأدوات الحلاقة. فى هذه الأيام وقد مر عام على رحيله أتذكر كلماته فى مجلة «الرجل» التى كان يتحدث فيها عن افتقاده لى بعد زفافى: «أخيراً غادرنا القاعة، ذهبت زوجتى وولداها زين العابدين وإسلام وابنتها الكبرى ريم وراء العروس لتوصيلها إلى بيت الزوجية وعدت وحدى إلى البيت، جلست إلى مكتبى كالعادة، شعرت بأننى أنتظر عودة إيمان من المعهد لتسهر معى توالينى بالقهوة والشاى وترتّب لى أوراقى وأرشيفى، طوال الليل ولسانى يردد: هاتى يا إيمان.. التليفون يا إيمان.. القهوة يا إيمان.. خذى الجرايد يا إيمان.. إلخ، أفقت فجأة على حقيقة أن كل هذا قد انتهى، وأننى من الآن يجب أن أعتمد على نفسى. لحظتئذ اضطربت أعصابى، انهمرت دموعى كالمطر، ثم انفجرت باكياً لا أدرى أمِن الحزن أم من شدة الفرح!!». أنا الآن من أنتظر عودته ولكنه لا يأتى، وأنا من تُعدّ القهوة ولا تجده ليشربها. وحدى مع سيرتك وتاريخك ومحبة الناس لك.. هى ما تصبرنى على فراقك.