وعينان صغيرتان تشعان ذكاء وفطنة وطاقة جبارة علي العمل. آخر لقاء ضمنا كان في ندوة تليفزيونية لرثاء صديقنا المشترك الراحل الصحفي مصطفي نبيل, وأدهشني كالعادة تذكره لتفاصيل عن الراحل العزيز كنت شاهدا علي بعضها لكنها سقطت من ذاكرتي مثل أشياء كثيرة, ولكن لم تدهشني عاطفته الحارة حين راح يتدفق في الحديث عن مصطفي نبيل بمحبة جارفة فهذا هو خيري حين يحب إنسانا أو مكانا أو كتابا أو ماضيا يحن اليه, عندها يصوغ من التفاصيل سردا مبدعا جرارا يأسرك إلي كلماته سواء كان يتحدث أو يكتب. أما عن لقائنا الأول فكان في وقت ما في منتصف الستينيات, سرعان ما أصبح لقاء يوميا تقريبا علي امتداد سنين في مكتب البرنامج الثاني في الإذاعة, وقتها كان هو كاتبا إذاعيا من نوع فريد, إذ كان مغرما بالتنقيب عن الكتب القديمة في مظانها عند سور الأزبكية وفي الأزهر والدرب الأحمر وفي أي مكان يتجمع أو يوجد فيه باعة للكتب القديمة. واعتاد أن يستخرج من هذه الكتب كنوزا لا تقع عيون غيره من هواة الكتب عليها. ينقب ويكتشف ثم يأتي بفخر إلي البرنامج الثاني وقد كتب دراسة عن واحد من هذه الكتب التي أحبها. وهكذا كنا أول من قدم في هذا البرنامج ما كتبه خيري شلبي عن تحقيق وكيل النيابة المستنير محمد نور مع الدكتور طه حسين مشفوعا بدراسة كتبها خيري مكتشف النص عن التحقيق الذي وقف فيه وكيل النيابة ضد أصحاب الأصوات العالية, حينها وبرأ العميد وكتابه من تهمة الكفر, منتصرا للحقيقة أولا ولحرية الرأي ثانيا. وكانت هذه الدراسة نواة لأول كتب خيري في مجال الدراسات: محاكمة طه حسين. ومن خلال البرنامج الثاني قدم خيري أيضا دراسات عن عدد كبير من المسرحيات المجهولة التي اكتشفها أبرزها مسرحية فتح الأندلس للزعيم الوطني الكبير مصطفي كامل. ولم يكن الحديث عن هذه الأعمال يستغرق كل الوقت في لقاءاتنا شبه اليومية, حيث اعتدنا الخروج بعد ساعات العمل لنجلس في مقهي صغير مقابل كوبري أبوالعلا الذي لم يعد له وجود, فنقضي الوقت في شرب القهوة والحديث عن الأدب والشعر وبعض النميمة عن الحياة الثقافية, وكان خيري ساحرا عند الحديث عن كل هذه الأمور وغيرها, فتنتني منه بالذات حافظته الجبارة للشعر, قديمه وحديثه, الفصيح منه والعامي, المنشور والمجهول, كان مثلا يحفظ ديوان عبدالحميد الديب الشاعر البائس أو شاعر البؤس كما كان يسمي من قبل نشر الديوان مجتزءا, وكان يحفظ عشرات القصص عن نوادر هذا الشاعر وغيره من الشعراء المجهولين الذين أحبهم ربما لأن الزمن قد ظلمهم. وأظن أن خيري شلبي هو أعظم راو للشعر في هذا الجيل. وقد سمعت ولايدهشني أن يكون هذا صحيحا, أنهم عندما كانوا يريدون التثبت من صحة بعض أبيات شاعرنا الكبير فؤاد حداد كانوا يرجعون إلي خيري شلبي فيفتيهم بالصواب. لهذا لم يكن من الغريب أن يرأس هذا الناثر العظيم تحرير مجلة الشعر في فترة مد عمرها وعمره. ما كانوا ليجدوا أصلح منه, وفي تلك الفترة التي توثقت فيها علاقتنا كنا كلانا نكتب القصة القصيرة, ولم يكن أحدنا قد وجد بعد صوته الخاص ولا حتي المكان الذي ننشر فيه قصصنا المخطوطة, ولكننا كنا بالطبع نتبادل المديح لإبداعاتنا الفذة, أقول له إنه بقصصه الواقعية خليفة ليوسف إدريس, فيجعلني بدوري خليفة لكاتب عالمي, ولم يكن هو ولا أنا جديرين بهذه الألقاب ولا بهذا المديح ولا كنا خليفتين لأحد إلا لأحلامنا في مطلع الشباب. غير أن ذلك لم يكن كله مجاملة أو نفاقا, فقد ربطت بيننا من أيامها محبة عميقة استمرت عشرات السنين لم تزعزعها حالات الخلاف المألوفة بين أبناء المهنة الواحدة. فحين أنجب ابنه الأكبر( زين) قال إنه سميي لأنه يناديه في البيت باسمي. وظل حتي آخر عمره يكرر ذلك ويؤكده لي هو وأفراد اسرته العزيزة ومنهم( زين) نفسه حفظه الله هو واخوته وأمهم الفاضلة ليحملوا أمانة تراث خيري. وكنت أفرح وأفخر بهذا التكريم الفريد من صديق فريد. فأما مازعزع علاقتي بخيري وزعزعني شخصيا فهو اضطراري للسفر خارج مصر منذ منتصف السبعينيات, فبالإضافة إلي كل سوءات الغربة وآلامها انقطعت صلتي بأصدقاء العمر في مصر سنين طويلة. وكنت ألاحظ في كل زيارة لي للوطن أني أصبح بالتدريج شخصا غريبا عنهم وبعيدا عن وجدانهم. وكم كان ذلك يحزن في نفسي كأني أدفع ثمن الغربة مرتين, مرة في منفاي والأخري في وطني. لا يدرك قسوة ذلك من لم يكابده ويلاحظ رسوخه. كانت بشاشة خيري الطبيعية ووده الصادق مما يخفف عني وطأة ذلك الشعور حين ألقاه في أثناء تلك الزيارات المتقطعة. وفي أول زيارة لي أهداني بفرح روايته( السنيورة) وقال بإلحاح اقرأ هذه الرواية وقل لي رأيك. قرأتها في الليلة نفسها وفي الصباح كنت أهنئه وأهنئ نفسي لأن صديقي وجد بالفعل طريقه وصوته الأصيل الذي لا يشبه صوت كاتب آخر. ففي هذه الرواية المبكرة من إنتاجه الغزير التالي نجد ملامح ريف مصري, لم نقرأ عن مثله من قبل, حتي عند من اعتقدنا أنهم يقدمون صورة واقعية للقرية المصرية. ويقول هو إنه استفاد من تجربته كعامل تراحيل في صباه في كتابة هذه الرواية, فمن من كتابنا عاش تجربة عامل التراحيل أو أيا من تجارب خيري الصعبة( كجامع قطن وخياط بلدي وسمسار ريفي.. الخ) بحيث يقدم لنا الريف المصري بمثل هذا الصدق والعمق؟ غير أن هذه الرواية وأنا أكتب عنها الآن من الذاكرة أغنت التجربة الواقعية بأسطورة خيالية كأنها خارجة من ألف ليلة عن البغلة( السنيورة), وسيصبح هذا المزج بين الواقع الممعن في واقعيته والخيال المحلق بعيدا عن عالم الحقيقة وعن منطق الواقع سيصبح علامة مميزة لإنتاج خيري ولعالمه الخاص الذي شاده وفرض به وجوده الأدبي في سرعة فائقة. ففي خلال سنوات قلائل حقق ما يقضي غيره من الكتاب عمرا كاملا للوصول إليه أو حتي إلي ما يقاربه. وكنت أتابع من مكاني البعيد أعماله وأحدثه عنها في لقاءاتنا المتباعدة أيضا. حدثته عن( فاطمة تعلبة) الشخصية الآسرة في رواية الوتد البديعة, التي رسمت صورة جديدة للأم في الرواية المصرية, بعيدة عن صورة الأم الخاضعة المستكينة, وأبديت له إعجابي الكبير برواية وكالة عطية التي حولت الواقع الخشن الحافل بالقسوة والألم إلي عالم سحري( فانتازيا) كأنه يلخص تجربة الحياة في المعاناة المتصلة بحثا عن خلاص قد يأتي أو لا يأتي. وأوجعتني التجربة المريرة في( اموال البيات والنوم) وأوجعني أكثر أن عرفت أنها مستمدة من تجربة حقيقية وأثنيت صادقا علي الرواية كعمل بالغ التأثير مع قسوته أو بسبب قسوته. واعتاد خيري أيضا أن يحدثني بمودة وتقدير عما كنت أنشره في سنوات الغربة. كانت كل الأمور بيننا تسير علي ما يرام كصديقين قديمين حميمين افترقا علي ود, غير أني فوجئت وأنا في جنيف بمقال في صحيفة عربية يهاجمني فيه ويهاجم رواية خالتي صفية والدير تعليقا علي ندوة حضرها عن الرواية ولم تعجبه. فوجئت تماما ومرت شهور قبل ان أقابل خيري في زيارتي التالية للقاهرة. كان غاضبا مازال وكنت أنا أيضا غاضبا وعاجزا عن الفهم. وحين تصارحنا تأكدت عندي عقيدة كتبت عنها أكثر من مرة وهي أن الطفل داخل كل منا يبقي حيا مهما بلغ الإنسان من الوعي والحكمة في نضجه وحتي في شيخوخته. وكان هذا يصدق علي كلينا, فقد قال خيري بصراحة وبراءة إنه غاضب مني لأنني كتبت مقدمة لرواية خالتي صفية تحدثت فيها عن كتاب الستينيات دون أن أذكر اسمه. لم أكن أقصد هذا الإغفال بالطبع ولكني سألته عما يعنيه له ذكر اسمه وسط اسماء أخري, في حين أنه أمه وحده وكيان قائم بذاته؟ وهذا بالفعل هو رأيي حتي الآن, فأنا لا أنسب خيري إلي مدرسة أو إلي تيار أدبي, ولا أحسب أن هذا يزيده قدرا علي أي نحو ولكني أنسبه فقط إلي خيري شلبي المكتفي بذاته, وكفي بهذا فخرا لأي كاتب. المهم أن تلك كانت بالفعل سحابة عبرت سماء صداقتنا الطويلة ثم رحلت. وعندما رجعت إلي مصر وصرنا نلتقي بانتظام في المجلس الأعلي للثقافة وفي الندوة الأدبية الشهرية التي يعقدها المحامي الكبير ر جائي عطية وفي مقاهي وسط البلد, عاد الود القديم أصفي ما يكون, وظللت أهنئه علي كل رواية جديدة تصدر له وأناقشه فيها, وأسعده ذات مرة أن قلت له إنني نصحت ابنتي بأن تقرأ رواية نعناع الجناين فأصبحت من بعدها تدمن قراءة أعماله. أما هو فقدم لي أثمن هدية حين اختصني بواحدة من صوره القلمية أو بورتريه أعطاه عنوان فحل الرمان, ولم أكن أطمع بعد ذلك في مزيد. بل إني كنت أطمع بالفعل كمثل طمع شوقي من حافظ. ومنذ انقض علي نبأ رحيله الصاعق الذي لم أفق منه حتي الآن وأنا أكرر قول شاعرنا العظيم: قد كنت أوثر أن تقول رثائي يا منصف الموتي من الأحياء أنا لم أهيئ نفسي أبدا لأن ترحل قبلي, فوداعا وإلي لقاء. ورحمة الله عليك وعلينا. المزيد من مقالات بهاء طاهر