4- التملص من إصلاح أجهزة الأمن والقضاء وتوظيف فسادها لصالح سلطة الحكم تملصت جميع سلطات الحكم الانتقالى بعد الثورة الشعبية من تطهير وإصلاح قطاع الأمن، بشقيه المدنى والعسكرى، ومن إصلاح القضاء أولاً بضمان استقلاله التام. وهى من أولى المهام التى تضمن نيل غايات الثورة الشعبية التى تقوم على نظام حكم تسلطى باطش يوظّف التغوّل الأمنى، كما يوظف بعض القضاء الذى يُفسد من خلال تحكّم السلطة التنفيذية فيه، فى القمع بسيف القانون. على العكس من ذلك، سعت كل سلطة مؤقتة إلى استغلال الفساد فى الأمن والقضاء وحمايته لتوظيفه لصالح أغراضها السياسية. ودليل ذلك أن بعض وزراء الداخلية تزيّدوا فى خدمة أغراض نظامى حكم مؤقتين نقيضين. وأن كل سلطة حكم مؤقتة أفرزت قضاة محسوبين على سلطة الحكم المؤقتة السابقة. وقد ترتب على هذه الخطيئة إحدى أكبر سوءات الحكم الانتقالى فى مصر بعد اندلاع الثورة الشعبية، ألا وهى إفلات من أجرموا فى حق الثورة من العقاب، ونخص بالذكر من أسهموا فى إيقاع الشهداء والمصابين فى جميع أحداث محاولات إجهاض الثورة الشعبية وملاحقة النشطاء من الشباب بقصد إفراغ الإمكان الثورى للشعب. ومن حسن الطالع أن جميع هذه المحاولات قد باءت بالخيبة، ولن تفلح مثيلاتها أبداً فى شعب ذاق طعم الانتصار على الطغيان، مرتين فى أقل من ثلاث سنوات. ولكن المسئولين عن هذه المحاولات الإجرامية الخسيسة قد أفلتوا جميعاً من العقاب، فى دليل قاطع على الإخفاق التام لمنظومة العدالة بعد الثورة، تحقيقاً واتهاماً وحكماً قضائياً. مثل هذه الخطيئة الفظيعة كانت تستوجب من أى حكم مناصر للثورة، ولو كان مؤقتاً، أن يتوفر على تطهير أجهزة الأمن والقضاء وإصلاحها بما يتسق ونيل غايات الثورة الشعبية. فمن يراقب نتائج جهود إخضاع المجرمين فى حق الثورة والثوار للعدالة قد ينتهى إلى أن أحداً لم يقتل الشهداء أو يوقع المصابين، ومن عُوقب منهم لم يلقَ قصاصاً عادلاً. انظر فى ما يسمى شعبياً بمهرجان البراءة للمتهمين أو الإفلات بأحكام مخففة. على سبيل المثال، الحكم على ضابط الشرطة المشهور بقناص العيون، الذى تخصص فى إطلاق المقذوفات النارية على أعين المتظاهرين، وأى إجرام من موظف عام كان يجب أن يفرض عليه واجبه المهنى حماية المتظاهرين، بالسجن ثلاث سنوات فقط. بينما يمكن أن يُحكم على متظاهر رفع شعاراً، أياً كان، بالسجن لمدة أطول! خاتمة: كيف يمكن أن يصلُح الحال فى المستقبل القريب؟ فى المنظور الواقعى، يبدو أنه قد قُضى الأمر، وستعود المؤسسة العسكرية على الأرجح إلى حكم مصر من خلال رئيس ذى خلفية عسكرية هو وزير دفاع سابق. فما جدول المهام ذات الأولوية القصوى التى يتعين على السلطة القادمة الالتزام بها لتفادى أخطاء وخطايا السلطات الانتقالية التى تلت اندلاع الثورة الشعبية، بما يكفل تعويض الشعب الكريم عما لاقاه خلال هذه السنوات الثلاث من عنت وعذابات ويحرك البلاد صوب نصرة مطالب الثورة الشعبية؟ على السلطة القادمة أولاً أن تترفع عن الخطايا التى سبق تعدادها. ويعنى ذلك تحديداً أن تترفّع السلطة التنفيذية عن اغتصاب سلطتى التأسيس والتشريع تحت أى ظرف وبأى تبرير كان. وأن تعمل جاهدة على القصاص العاجل والناجز من المسئولين عن إيقاع الشهداء والمصابين خلال أحداث الثورة، خصوصاً لو كانوا من القوات المسلحة. ويعنى أيضاً أن تتحاشى السلطة القادمة فى اختيارها للمسئولين، الركون إلى شخوص وذهنيات خصيمة لغايات الثورة الشعبية وأن تسعى لأقصى استفادة ممكنة من المسكونين بهموم الثورة الشعبية والحريصين على نيل غاياتها من جميع الأجيال، لا سيما من أجيال الشباب. وبالنسبة إلى أجيال الشبيبة فمن اللازم صوغ الأسس التشريعية ووضع البرامج التنفيذية اللازمة لتمكينهم من الصعود فى الحياة السياسية ومؤسسات الحكم فى مصر وفاءً لدورهم الطليعى فى الثورة الشعبية وتأسيساً لإمكان النهضة فى البلد بطاقاتهم المبدعة والخلاقة. كما يتعيّن أن تتوافر السلطة القادمة على تطهير أجهزة الأمن، المدنية والعسكرية، ممن لا يناصرون مطالب الثورة وإعادة بناء هذه الأجهزة على أساس علمى حديث لتكون عقيدتها ومجمل سلوكها مكرسين لحماية حقوق المواطنين وحرياتهم. ويلزم كذلك وضع الضمانات التشريعية والإجرائية لضمان الاستقلال التام للقضاء والاحترام البات لأحكامه مع تيسير تطهير مؤسسة القضاء لثوبها حتى يبقى ناصعاً من غير سوء. وينبغى أن تسعى السلطة القادمة لاستكمال البنية التشريعية الكفيلة بحمل نسق للحكم الديمقراطى السليم بالعمل على سنّ القوانين المكمّلة للدستور، بحيث تحفظ مدنية الدولة الحديثة القائمة على المواطنة المساوية بين الجميع، ضامنة لكامل منظومة حقوق الإنسان ولتعديل مواد الدستور التى تحمل شبهة تُميز القوات المسلحة عن باقى مؤسسات الدولة مثل عدم إخضاعها للرقابة الشعبية، بحيث لا يعلو على سيادة الشعب وتجلياتها أى جهة كانت. مجمل المهام السابقة -إن تحققت- سيعنى أن وجود المؤسسة العسكرية فى خلفية الحكم لا يعنى بالضرورة تقويض الحكم الديمقراطى السليم ولا ينتقص من مدنية الدولة، على الأقل مستقبلاً. ولكن لا يستكمل جدول المهام إلا بوضع مشروع قومى جاد للنهضة الإنسانية ينقض استراتيجيات الاقتصاد السياسى الفاشل والفاسد الذى وضعه نظام الحكم التسلطى الذى قامت الثورة الشعبية لإسقاطه، وحافظت عليه كل السلطات الانتقالية حتى الآن بحذافيره، والبدء بتنفيذ مشروع النهضة هذا بجدية. فهل من أمل فى أن تنهض السلطة القادمة بهذه المهام الجسام أو على الأقل تؤسس لها تأسيساً متيناً؟ نعم الأمل قائم، موضوعياً. فمن ناحية، سلوك قيادات القوات المسلحة فى تصحيح 3 يوليو اتسم بحصافة تفادت قدراً مهماً من أخطاء حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة خلال الفترة الانتقالية الأولى، وإن ليس كلها. إلا أن الضمانة الأساسية لالتزام السلطة القادمة بجدول المهام الطموح هذا ستبقى إطراد اليقظة الثورية واتقاد الفعل الثورى المبادر لقوى شعب مصر الحية والمتجددة.