من نافلة القول أن توظيف الأمن فى مواجهة الإرهاب، مع عدم الإخلال بوظيفته الأساس فى حماية حقوق المواطنين وحرياتهم، يتطلب نوعا مختلفا من أجهزة الأمن التى نمتلك الآن. أمنا ذكيا يقوم على العلم والمعلومات وليس مجرد الغلظة والفظاظة. لتقريب الصورة، قد يندهش القارئ لمعرفة أن سويسرا، ذلك البلد الهادئ الوادع الآمن والمزدهر، هو فى الواقع دولة بوليسية عاتية، ولكن التحكم الأمنى الصارم وبالغ الكفاءة فيها مغلف بقفازات حريرية. قد لا يعرف كثيرون مثلا أن سويسرا تلك لايحتاج فيها الزائر غير المقيم حتى لملء بطاقة دخول عند الحدود، ولكن لا يغيب فيه مقيم او زائر عن عين الأمن لحظة ولكن من دون أن يشعر أو يقلق ثانية واحدة أو تنتهك حقوقه بما فيها احترام حياته الخاصة إن لم يرتكب جرما. كما لا يفلت مجرم مهما علا شأنه من يد الأمن الحديدية المغلفة بقفاز حريرى إن أخطأ. وقد تكررت الوقائع التى احتجز فيها الأمن السويسرى شخصيات عربية رسمية او شبه رسمية لاقترافهم مخالفات، ولو ضد أجانب من خدمهم، وأحيلوا للمحاكمة بسببها. كيف إذن يتحقق مثل هذا الإنجاز؟ إن المعلومات وتوظيف العلم والتقانة الحديثة هما ركنا الأمن الذكى الأساسيين. والركن الآخر هو التأمين الوقائى والاستباقي، بمعنى منع الجريمة قبل أن تقع بدلا من التفرغ لتعقب الجناة والبطش بهم، وبغيرهم، بعد وقوع الجريمة. فهذا الأسلوب المتخلف يعنى أن يوقع الأمن ضحايا ابرياء ويرتكب بدوره جرائم فى حق مواطنين كما نشهد فى مصر الآن. وللتوضيح، فالأمن الوقائى والاستباقى لايعنى فقط الضربات الإجهاضية لجرائم الإرهاب بالغلظة التى قد يقع تحت طائلتها أبرياء ولكنه يقوم أساسا على المعلومات، الجمع الذكى لها والتحليل العميق والرصين لها باستمرار. ويشير كل هذا إلى ضرورة فتح ملف تطهير وإعادة بناء أجهزة الأمن، المدنية والعسكرية، من باب زيادة الكفاءة والفاعلية من دون إيقاع ضحايا أبرياء أو العصف بحقوق المواطنين وحرياتهم. لكن لدينا نجد جل موازنة وزارة الداخلية تذهب للمرتبات والمكافآت والمزايا المادية للأفراد، ولا يوجد منها ولو كسرا ضئيلا للبحوث والتطوير التقنى فى الأمن والمعلوماتية، كما هو الحال فى إسرائيل مثلا حيث توجد وحدة مهمة فى أجهزة الأمن للبحث العلمى والتطوير التقني. يمكن أن تكون هناك فرصة لنجاح الشق الأمنى فى مكافحة الإرهاب فى مصر فقط من خلال صنف من الأمن الذكى الذى يحتاج بدوره لإعادة تصميم منظومة الأمن المصرية، المدنية والعسكرية، على حد سواء. وهى المهمة التى تقاعست عنها- عمدا فى ظني- جميع السلطات المؤقتة بعد الثورة الشعبية العظيمة، بل وظفت الفساد فى هذه الأجهزة لأغراضها السياسية النفعية ولو على حساب حقوق المواطنين وحرياتهم. لقد تملصت جميع سلطات الحكم الانتقالى بعد الثورة الشعبية من تطهير وإصلاح قطاع الأمن، بشقيه المدنى والعسكري. على العكس من ذلك، سعت كل سلطة مؤقتة إلى استغلال الفساد فى أجهزة الأمن وحمايته لتوظيفه لصالح أغراضها السياسية. ودليل ذلك أن بعض وزراء الداخلية تزيدوا فى خدمة أغراض نظامى حكم مؤقتين نقيضين. واكتفت جميع هذه السلطات جميعا بتملق العاملين فى أجهزة الأمن برفع المرتبات وزيادة المزايا. وقد ترتب على هذه الخطيئة أحد اكبر سوءات الحكم الانتقالى فى مصر بعد اندلاع الثورة الشعبية ألا وهو إفلات من أجرموا فى حق الثورة من العقاب، ونخص بالذكر من ساهموا فى إيقاع الشهداء والمصابين فى جميع أحداث محاولات إجهاض الثورة الشعبية وملاحقة النشطاء من الشباب بقصد إفراغ الإمكان الثورى للشعب. ومن حسن الطالع أن جميع هذه المحاولات قد باءت بالخيبة، ولن تفلح مثيلاتها أبدا فى شعب ذاق طعم الانتصار على الطغيان، مرتين فى أقل من ثلاث سنوات. ولكن المسئولين عن هذه المحاولات الإجرامية الخسيسة قد أفلتوا جميعا من العقاب، فى دليل قاطع على الإخفاق التام لمنظومة العدالة بعد الثورة، تحقيقا واتهاما ومحاكمة قضائيا. مثل هذه الخطيئة الفظيعة كانت تستوجب من أى حكم مناصر للثورة، ولو كان مؤقتا، أن يتوفر على تطهير أجهزة الأمن والقضاء وإصلاحهما بما يتسق ونيل غايات الثورة الشعبية. فمن يراقب نتائج جهود إخضاع المجرمين فى حق الثورة والثوار للعدالة قد ينتهى إلى أن أحدا لم يقتل الشهداء أو يوقع المصابين، ومن عوقب منهم لم يلق قصاصا عادلا. انظر فيما يسمى شعبيا بمهرجان البراءة للمتهمين أو الإفلات بأحكام مخففة. نذكر على سبيل المثال، الحكم على ضابط الشرطة المشهور بقناص العيون والذى تخصص فى إطلاق المقذوفات النارية على أعين المتظاهرين، وأى إجرام من موظف عام كان يجب أن يفرض عليه واجبه المهنى حماية المتظاهرين، بالسجن ثلاث سنوات فقط. بينما يمكن أن يُحكم على متظاهر رفع شعارا، أيا كان بالسجن لمدة أطول وغرامة مالية ضخمة! إلا أن الأزمة الأمنية المستعرة حاليا والتى تهدد بفشل خريطة المستقبل التى أوكل للحكومة المؤقتة السهر على إنجاحها، والتى تهدد بإسقاط الاقتصاد المصري، ناهيك عن فقدان الناس للشعور بالأمن، تتطلب إعادة طرح ملف إعادة بناء قطاع الأمن، بشقيه المدنى والعسكري. بداية يتعين تبنى هدف تطهير أجهزة الأمن، المدنية والعسكرية، ممن لا يناصرون مطالب الثورة وإعادة بناء هذه الأجهزة على اساس علمى حديث لتكون عقيدتها ومجمل سلوكها مكرسين لحماية حقوق المواطنين وحرياتهم. ولكن يتعين أن يكون واضحا أن هذا أيضا منظور طويل الأجل يقتضى العمل من الآن بجد وهمة على إعادة بناء قطاع الأمن بكامله بدءا من إعداد الكوادر، بالتركيز على العناصر الشابة المتعلمة تعليما راقيا، وإعادة هندسة هيكل الأجهزة وموازناتها وعقيدتها وأساليب أدائها وطرق تقييم ذلك الأداء بما يحقق منظومة للأمن الذكي. لكن الخطر الداهم الحالى يتطلب بعض إجراءات على سبيل الاستعجال تزيد من الاعتماد على المعلومات والتكنولوجيا الحديثة على حساب التقليل من سيادة منحى القبضة الأمنية الغليظة، خاصة بعد الحدث. لمزيد من مقالات د . نادر فرجانى