هذا مقال تحذيرى يتمنى الكاتب ألا يصبح تنبؤا. صحيح أن أحد استحقاقات هذه المرحلة الانتقالية الثانية على وشك أن يتحقق بالاستفتاء على مشروع الدستور، وهذه علامة مطمئنة حيث المشروع فى مجمله جيد ويناصر نيل غايات الثورة الشعبية فى الحرية والعدل والكرامة الإنسانية للجميع على أرض مصر. ومع ذلك، فإن المشروع يتنازل عن مدنية الدولة فى مصر وهى متطلب أساسى لقيام الحكم الديمقراطى الصالح المؤهل لقيام فرصة للإصلاح المجتمعى الممكن من نيل غايات الثورة. فالمشروع تهاون فى مدنية الدولة مرتين، مرة لصالح تيار اليمين المتأسلم بحذف مدنية الحكم من المواد والديباجة معا. وقدم تنازلا أكبر لصالح الصنف الثانى من الانتقاص من مدنية الدولة، بتقديم تنازلات أكبر لصالح إضفاء الطابع العسكرى على كيان الدولة وتحصين المؤسسة العسكرية من المساءلة الشعبية، إلا بالخروج عليها بالطبع. كما أن مجمل البوادر الأخرى لا يبدو مطمئنا حتى الآن وسأشير إلى أهمها فى باقى المقال. (1) من يحكم مصر الآن يقوم على أمر مصر الآن فريق كبير يناهز الخمسين مسئولا. يتكون الفريق من الرئيس المؤقت وفريق مستشارين يقارب عددهم العشرة، ووزارة يرأسها د.حازم الببلاوى وتضم ثلاثة نواب وثلاثين وزيرا. لكن يبرز من هذا الفريق الكبير شخص الفريق أول وزير الدفاع ونائب رئيس الوزارة الذى يعدّه كثيرون، فى الداخل والخارج، المحرك الرئيسى للفريق كله بسبب دوره المحورى فى وضع خريطة المستقبل التى توجّت الموجة الثانية الكبيرة من الثورة الشعبية فى 3 يوليو 2013. ويبلغ البعض حد اعتباره الحاكم الفعلى لمصر، وهو يتحمل بلا شك مسئولية خاصة عن مهمة مكافحة الإرهاب التى كلّفه بها الشعب بناء على طلبه. هذا الفريق من خمسين هو ما سمى الحكومة المؤقتة، وهى تجمع فى هذه الحقبة الاستثنائية بين سلطات التشريع والتنفيذ سويا، ما يحمّلها المسئولية التاريخية المطلقة عن حكم هذه المرحلة الانتقالية الثانية. ويلاحظ أن كل الفريق غير منتخب من الشعب، ما يحمّل أعضاءه مسئولية استثنائية فى خدمة الشعب وإنجاح هذه المرحلة الانتقالية الثانية بوحى من ضمائرهم ووطنيتهم أملا فى رضا الشعب والتاريخ عما أنجزوا. ولا ينفى هذا أن الفريق كله، خاصة الفريق أول السيسى، قد حظى بتفويض شعبى كاسح لإنجاح هذه المرحلة الانتقالية عامة، وللقضاء على إرهاب اليمين المتأسلم خاصة، من خلال أكبر تظاهرات فى تاريخ البشرية فى نهايات يونيو 2013، وهو ما يثقّل من وزن المهمة الملقاة على عاتق الفريق، والفريق الأول وزير الدفاع. ولكن من سمات هذا الفريق ذات العلاقة بموضوع هذا المقال قلة المناصرين الأشداء للثورة الشعبية. ومن أسف تتراكم القرائن على إخلال الفريق بالمهام الموكولة إليه. وإن كان يجب أن نضيف لهذا الفريق فى تحمل المسئولية التاريخية مؤسسة القضاء، خاصة النائب العام، فتصبح الحكومة مع القضاء سلطة الحكم المؤقت لهذه المرحلة الانتقالية. يدور هذا المقال حول التساؤلات التالية: هل يعقل أن أولى الأمر فى مصر فى هذه المرحلة الانتقالية الثانية لا يدركون أن مزيج القهر والظلم الاجتماعى كانا من أهم بواعث اندلاع الموجة الأولى من الثورة الشعبية العظيمة فى يناير 2011؟ وأن استمرارهما واشتدادهما كانا من أهم دوافع الموجة الكبيرة الثانية من الثورة الشعبية فى يونيو 2013 التى أتت بالفريق الحاكم الآن؟ إن أحدث استطلاعات الرأى تدل على أن مدى الرضا عن الوزارة لا يتعدى الخُمس، وكانت فى انخفاض مطرد بمرور الوقت، ويشعر ثلثا المواطنين أن أحوالهم المعيشية ساءت أو لم تتحسن. كما انخفضت الثقة فى المؤسسة العسكرية من 93% فى يوليو إلى 70% فى سبتمبر، وفى القضاء من 67% فى مايو إلى 54% فى سبتمبر. أى أن ثقة الشعب فى كل عناصر سلطة الحكم المؤقتة كانت تتناقص باضطراد. وهذا المستوى المتدنى، والمتناقص، من التأييد الشعبى لسلطة الحكم المؤقتة يجب ألا يكون مستغربا فى ضوء القلق الأمنى بسبب استمرار نشاطات فلول اليمين المتأسلم للتكدير على الشعب وقصور أجهزة الأمن فى مواجهتها والتخوف المتزايد من تقييد الحقوق والحريات الأساسية. أضف إلى ذلك تجاهل المطالب المشروعة للعناية بمصابى وعائلات شهداء الثورة، والتعامى عن العمل من أجل نيل غاياتها الرئيسية. من ثم، هل يجدد الفريق الحاكم الدعوة لموجات تالية من الثورة الشعبية بتكراره أخطاء وخطايا المرحلة الانتقالية الأولى تحت حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وخلال مدة حكم اليمين المتأسلم، كليهما، بنفخ الحياة فى آليات القهر والإفقار التى تشكل الظروف الموضوعية لاندلاع موجات الثورة الشعبية؟ وإن كانوا يدركون هذين الدرسين البليغين، ألا يدركون أنهم بصدد تكرار التجربة المريرة ذاتها؟ أم أنهم، كما كان المجلس العسكرى ثم الإخوان الضالون وحلفاؤهم من اليمين المتأسلم، لاهون عن عذابات الناس بزخرف الحكم ورونقه؟ وهو لو يعلمون خدّاع وزائل لا محالة! نكمل الأسبوع المقبل