إذا كانت العبادة مثمرة، نابعة من قلب حى متوهج، منفتح على الملأ الأعلى، فإنها تصنع فى باطن الإنسان أثرا عجيبا، ألا وهو السّعَةُ، واتساع الصدر، والحلم، وانفساح الخاطر، وإلقاء السمع مع تمهل وأناة، وأساس ذلك كله هو الامتداد الباطنى الواسع العريض، الناشئ من حسن تصور المتعبد لعلاقة الدنيا بالآخرة، وعلاقة الأرض بالسماء، وعلاقته هو بالرَّحِمِ الإنسانى الواسع الممتد، عبر حضارات البشرية، وعلى مدار الزمن، وعلى امتداد الكرة الأرضية، وفى سائر أطوار الإنسان وحضاراته، وإلا فلماذا ربط الله تعالى الإنسان المسلم بالتجربة البشرية الطويلة الممتدة، من آدم إلى نوح، وإبراهيم وإسماعيل، وإسحاق ويعقوب، وموسى وهارون، وأيوب ويوسف، وزكريا ويحيى، وعشرات ومئات وألوف سواهم من النبيين والمرسلين، منهم من قص الله علينا أخبارهم، ومنهم من لم يقصص، مع شبكة علاقاتهم، ومحاوراتهم مع أممهم، مع شئون مناجاتهم وإقبالهم على ربهم، ومع ما وقع لأممهم من العقوبات أو النجاة واستقرار الأمر، فإذا انساب خاطر الإنسان مع ذلك كله اتسع صدره، وصار أفقه رحيبا، حافلا بالتجارب البشرية، والغوص فى علل الإنسان ومشكلاته عبر تاريخه، بصيرا بنفسية الإنسان وتقلباتها فى سائر أطوارها من الرضا والغضب، والمحبة والكراهية، والإيمان والعناد، حتى يصير باطن الإنسان واسعاً جداً، مشتملاً على عشرات الخبرات الإنسانية، الناشئة من الصبر الطويل من الأنبياء على الإنسان فى مختلف أطواره، إننا نتحدث يا سادة عن إنسان يتعبد ويقبل على الله، فيتسع فهمه لمقاصد مخاطبة الله تعالى له بكل ذلك، مع ما يصفه الله تعالى من أحوال الملائكة، وشئون الغيب، وجريان الأفلاك بلطف التدبير الإلهى المحكم، المتقن الصنع، فما نتيجة ذلك كله؟ النتيجة هى خروج الإنسان من الحدود المغلقة لمنزله، والحى الذى يعيش فيه، وعلاقاته الضيقة المتأزمة بالأفراد الذين يحيطون به، ومشكلات عمله، وسائر الأمور الحياتية الخانقة، التى يضيق بها الصدر، ويتشوش بها الخاطر، وينطفئ بسببها سراج العقل والفكر، وتُخْمِد فى الإنسان التفكير والإبداع، حتى تقتل فيه إنسانيته، فلا أمل، ولا بهجة، ولا تجديد، بل انقباض الخاطر، وسوء الخلق، والضيق بالناس، ولا يزال الإنسان كذلك، حتى ينفتح باطنه على تلك الآفاق الواسعة، فإذا بالنوافذ قد انفتحت على الباطن، لتبدد ظلماته، وتجدد الهواء فيه، ويسترسل الخاطر فى فضاء الفكر والفهم، ويحب العمران والإنسان، ويخرج من ضيق نفسه حتى ينفتح على الأكوان من حوله، وتتجدد عنده الرغبة فى العمل والإنجاز، والتعلم الدائم، واتساع الخاطر للناس بخيرهم وشرهم، وأخطائهم وصوابهم، إنها السعة بكل معانيها، فى العقل والقلب والضمير والخُلُق، إنها العبادات والفرائض التى تُطَوِّفُ بالإنسان فى الملأ العلوى والسفلى، وتدخله فى معراجٍ شريفٍ، يُطِلُّ منه على العالم بأسره، ويفهم سنن الله تعالى فى تسيير شئون الكون والعباد، بحيث إذا أتم عبادته وفرائضه كان كأنه نزل لتوه من رحلة خارج كوكب الأرض، استعرض فيها تاريخ الإنسان وتقلباته وأطواره، وتجربته الطويلة الحافلة بالخبرات المتراكمة، والمعارف الكثيرة، إنها رحلة اتساع الأفق، والانعتاق من الضيق، (وللحديث بقية).