من أهم ثمرات العبادة الموصولة بالله تعالى أنها تصنع الهمة، وتملأ الباطن بالقوة، وتصَفّى الطبع من الوَهَن والترهل واليأس والقنوط والإحباط، وتربط الإنسان برب العالمين، فينصهر باطن الإنسان بجواهر المعرفة الإلهية، ويعرف شرف الاستمداد من الله تعالى فى كل حال، فلا يغلبه بعد ذلك حزن، ولا قبض، ولا تتسرب إلى بواطنه بواعث الوهن والضعف والتخاذل، بل لا يزال باطنه يتماسك، ويشتد، ويمتلئ بالهمم العظام، ويتعلق بالكمالات، ويفقه عن الله تعالى، ويتعلم كيف يناجيه، ويدعوه، ويلجأ إليه، حتى يصير فى غاية الثبات، والهمة من أشرف الثمرات التى تنتجها العبادة؛ لأن العبادات والفرائض إذا كانت حية ومتوهجة فإنها تعالج الباطن، وتصهر بالتدريج ما فيه من شوائب، وتزيل العلل النفسية شيئا فشيئا، وتفتح بصيرة الإنسان على ما هو حاصل فى الملأ الأعلى من انخراط الملائكة وعوالم الغيب فى الشئون الإلهية دون سأم، وإن العوالم كلها قائمة بحق العبادة دون كلل ولا ملل، قال تعالى: «وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ» (سورة الأنبياء، الآيتان 19 و20)، وقال تعالى أيضا: «فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ»، (سورة فصلت، الآية 38)، فهناك، فوق أطباق السموات والأرض، عوالم من الغيب الشريف، لا يعتريهم السأم، ولا الفتور، وعندهم من الهمم والتعلق الجليل ما لا يطرأ معه عليهم وهن، وقد استشرف الأكابر من العلماء والأكابر من هذه الأمة لذلك، فتعلموا الصبر على الإنجاز، فى العبادة، والقراءة، والمطالعة، والتعلم، والتعبد، والعلوم، والمعارف، ومعاملة المجتمع، ومداخلة الناس، حتى أنجزوا عجائب من المؤلفات، والإنجازات، وبناء الحضارة؛ لأنه قد سرى من العبادة إلى بواطنهم شعاع من الثبات، والهمة، والصبر، والإصرار، وحب الإنجاز، وهذه الروح السارية فيهم ثمرة من ثمرات الارتباط بالحق سبحانه، ومن ظن أنه قائم بالفرائض، مع اتصافه بالوهن والتراخى، والعلل النفسية، والتثبيط، فهو واهم، وقد قال الله تعالى لسيدنا يحيى عليه السلام: «يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً»، (سورة مريم، الآية 12)، فجعل سبحانه القوة سمة من سمات أهل الحق، والقوة هنا هى قوة الجنان العامر بمعرفة الله، وتمام فهمه، وشدة إصراره على النهوض بأعباء تلك المعرفة، والقوة هنا هى الغيرة من أهل الكمال والإنجاز من العلماء والعباقرة والعُبَّاد والمفكرين، فلا يتقاصر الإنسان عنهم، بل يجد نفسه مدفوعا لمنافستهم فى كمالاتهم، وكلما أمعن فى العبادة الصادقة ارتوى فؤاده بهذه المعنى، وازداد إقبالا على الله، وفهما عنه، ونهوضا إلى عمارة الأرض، وإبراز محاسن الشريعة، وتحويل القرآن إلى برامج عمل، مع الصبر التام على المشقة والعوائق، والموانع، والصوارف، وهموم المعيشة، ومكابدة الناس، لا يصرفه عن ذلك صارف وإن اشتد، بل لا يزال باطنه يلتمع بجواهر الهمم الزاكية، التى لا تزال تحمله حتى تحط رحاله فى دائرة الأكابر (وللحديث بقية).