أول سبب من أسباب تحويل العبادة إلى صورتها الناضرة المتوهجة هو: امتلاء القلب والباطن معرفة وتوقيراً وإجلالاً وهيبة لرب العالمين، وتعلقاً بسعة رحمته وجوده وحلمه، والسبب الثانى هو: امتلاء القلب بتعظيم الشعائر، وشهود وجه الحكمة الإلهية فى فرضها والإلزام بها، وأن تلك الفرائض مرتبطة بأحداث ومناسبات كونية غيبية، يريد الله تعالى لنا أن نتناغم معها، وألا يفوتنا ما هو حاصل فيها من شئون التجلى الإلهى، وأن للكون والعوالم الغيبية وعوالم الملائكة الكرام أحوالاً من الصعود والاحتشاد والتسبيح والإقبال، يشبه المدَّ الحاصل فى أمواج البحر، فيأمرنا الله تعالى بإيقاع عبادة له فى ذلك الوقت، وهكذا فى سائر الفرائض والعبادات، حتى لا تكون الأكوان فى تلك الأوقات فى أحوال حضور وضجيج ودوى بالتسبيح والذكر والتمجيد لرب العالمين، بينما نبقى نحن -فى تلك الأوقات الشريفة- فى حال غفلة، وهذا المعنى جزء من معانى الإيمان بالغيب، وإدراك صور ارتباط الإنسان بعوالم الغيب من حوله، وأنه له فضل وتكريم على أكثر تلك العوالم، فلا يليق به -وهو فى القمة من تلك العوالم- أن يغفل، فى أشد أوقات تكاثف وتسارع شئون الإقبال، الحاصل عند تلك الأكوان، فى تلك الأوقات والدورات المتكررة المتجددة، فسبحان من خضعت الأكوان جميعاً لعظمته، وسبحان من يسبح الرعد بحمده، والملائكة من خيفته، وسبحان من فطر الأكوان وجبلها على معرفته وتمجيده، ثم إن الإنسان إذا ما أدرك هذه المعانى تغيرت صورة العبادة فى ذهنه، واختلف وزنها ومقدارها فى عينيه، وأدرك أنها صورة من ارتباطه بالأكوان من حوله، والتناسق معها فى ذروة أوقات تسبيحها وإقبالها على الله، ولعل هذا كله أن يكون مرتبطاً أيضاً بما يتجدد من نزول الشئون الإلهية بتدبير أحوال الأكوان، ووجوه الإيجاد والإمداد، وأحوال الحكمة والسنن الإلهية المنزلة، وسبحان رب العالمين، كل يوم هو فى شأن، ثم إن المعانى المذكورة كلها غيب محض، لا تستفاد ولا يطلع عليها إلا من إخبار الله تعالى لنا بذلك، حيث أشار سبحانه فى كلامه المجيد فى الوحيين الشريفين (القرآن والحديث النبوى) إلى إشارات وومضات من ذلك، فمن ذلك مثلاً ما رواه البخارى ومسلم عن أبى هريرة -رضى الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا جاء رمضان: فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وسلسلت الشياطين»، فأشار إلى ارتباط رمضان بأحداث كونية عظيمة، يشعر بها الملأ الأعلى كله، حيث تنفتح أبواب الجنان، فتسرى نسائم اللطف على الملأ الأعلى، وتغلق أبواب النيران، وتقيد الشياطين بالسلاسل، فتنحسر بذلك بعض أبواب الشر ومنافذه، وتكون النفس أكثر قابلية للاهتداء، ومن ذلك أيضاً قوله سبحانه: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِى الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ» (الحج: 18)، ففى الآية إشارة إلى ما هو حاصل فى عالم الغيب من أحوال الإقبال على الله تعالى، وأن كثيراً من الناس يندرجون فى هذه المنظومة، ويفهمون عن الله تعالى مراده، ويدركون ما هو كامن وراء العبادات من أسرار وارتباطات بسياق تعبدات الأكوان والعوالم، وهذا كله يفضى إلى تعظيم شأن العبادة، وامتلاء القلب بإجلال الفرائض والشعائر. «وللحديث بقية».