ندعو المولى عز وجل أن يتغمد شهداءنا الأبرار بواسع رحمته، وإذا كان نظام مبارك اعتاد الصمت على قتل ضباطنا وجنودنا بنيران الجيش الإسرائيلى، فمصر الثورة لن تصمت أبدا. أما بعد، فلنتأمل قوله تعالى «وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى» (الأنفال: 17) فما رمى إلا الحق سبحانه! فأين محمد عليه أفضل الصلاة والسلام؟! لقد محاه وأثبته ثم محاه! وهكذا تتجلى لنا حقيقة وجودنا البشرى المتأرجح بين قهر المحو، وظلال الإثبات! ولذلك قيل لأبى سعيد الخراز: بما عرفت الله؟ فقال: بجمعه بين الضدين، إذ «هو الأول والآخر والظاهر والباطن» (الحديد: 3) وكذلك العارف لا يعرف إلا بجمعه بين الضدين. فهذه القدرة على تجاوز المتناقضات هى علامة العارف، لأنه شاهد جمعها فى نفسه وفى الوجود حوله. وهذا الجدل الدائم بين المتناقضات، يدفع بالعقل إلى أن يصل إلى أقصى حدوده، فيرى أن الحقيقة بلا حدود. وعندئذ يتسع القلب وينفتح العقل وتتهيأ الروح لاستيعاب تجليات الحقيقة المطلقة. ولذلك قال النفرى «ترى أصحابى عطل مما بدا، وأحبابى من وراء اليوم وغدا»، وهذه إشارة لتجاوز كل ما بدا وتخطى حدود المكان والزمان! ومن ثم قل للعارفين كونوا من وراء الأقدار فإن لم تستطيعوا فمن وراء الأفكار. وهنا تجاوز للحدود الجامدة لعالم الفكر الصلب! وهذا التجاوز الكامل لا يتم إلا من خلال رحابة وسماحة وسعة، وصاحب هذه الرؤية ولى لا يسعه حرف، بل لا يسعه العالم كله! فلا يسع الولى إلا الحق، ولا يسع الحق عز وجل إلا قلب ولى! وقد أشار ابن عربى مرات عدة إلى مواقف النفرى ومخاطباته. وهما معا من مدرسة الحلاج الكبرى، ومن تلامذة البسطامى والجنيد المخلصين! فهذه الرؤية الواسعة المتسامحة التى ترى أن للحقيقة وجوها متعددة، كما ترى أن ثمة مستويات مختلفة للتعبير عن تجليات الحقيقة، هذه السعة تمثل جانبا مهما من جوانب الرؤية الصوفية الإسلامية التى يشترك فيها كبار الصوفية فى مختلف الديانات. وتتجلى لنا هذه الرؤية الواسعة فى كلمتين للنفرى، وهما «قلب العين»، فلا تصح رؤية الخارج وحده ولا الداخل وحده! فرؤية الاتساع الإلهى تحتوى أعماق الداخل، ورحابة الخارج! وهذا الجمع هو ما سماه النفرى بالفقه! فقه الواقع الخارجى، وفقه العمق الداخلى، وفقه الصلة بينهما! وهذه الرحابة العقلية لا تقدر عليها عقول كثيرة، كما أن هذه السعة القلبية لا تحتملها صدور أكثر البشر، فكما يقول الحلاج «أفهام الخلائق لا تتعلق بالحقيقة، والحقيقة لا تتعلق بالخليقة، الخواطر علائق، وعلائق الخلائق لا تصل إلى الحقائق، والإدراك إلى علم الحقيقة صعب، فكيف إلى حقيقة الحقيقة». وهكذا نرى أن طريق الحق صعب وضيق وعسير، ولنتذكر كلمات المسيح عليه السلام «ادخلوا من الباب الضيق، لأنه واسع الباب ورحب الطريق الذى يؤدى إلى الهلاك». (إنجيل متى: الإصحاح السابع 13). فبعيدا عن هذا الطريق الضيق، يتسع للغاية الطريق المؤدى إلى عذاب الجحيم!