من أهم ثمرات العبادة المتوهجة النافذة إلى القلب أنها تجعل صاحبها إنسانا صاحب مروءة، كريم النفس والطبع، فى باطنه سخاءٌ وحُسْنُ تَعَهُّدٍ للخلق، يستشعر أحوال الناس من حوله، ويأسى لما يصيبهم، ويتوجه إلى الله تعالى فى شئونهم وآلامهم وأحوالهم، كريم المعشر، لا يهنأ ولا يطيب له عيش والناس تتألم من حوله، وكلمة المروءة هى الوعاء الجامع لكل تلك المعانى والشِّيَم. وإذا كانت العبادة عميقة، واصلة ما بين العبد وربه، فإنها تُنبت فى باطن الإنسان بذرة المروءة، وتجعله إنسانا نبيلا، يعظِّم قيمة الإنسان، ولا يرضى له بالألم ولا المهانة ولا الظلم، والمروءة هى أولى درجات الإنسانية، وبدونها لا يكون الإنسان إنسانا، وكلما ارتقى الإنسان فى معارج المروءة ارتقى فى الكمال الإنسانى، حتى ينتهى الأمر إلى أنبياء الله تعالى، فإذا بهم أكمل الخلق مروءة وإنسانية، لأنهم -عليهم صلوات الله- هم الذين انفتحت بواطنهم على الملأ الأعلى، وتنورت بواطنهم بالوحى، وشهدوا الغيب الشريف، وعرفوا جلال الله تعالى، وفهموا مراده من عباده، فارتفعت قيمة الإنسان عندهم، فكانوا عبر التاريخ فى غاية المروءة والحرص على الإنسان، والنصح له، وتبصيره فى الدين، وشدة التوجه إلى الله تعالى فى شئونه، والرفق به، وتقريب الصواب من فهمه، والصبر عليه، وسعة الصدر معه، والسعى فى الرحمة به فى الدنيا والأخرى. وانظر كيف وصف الله تعالى أكمل الأنبياء مروءة فقال: (لقد جاءكمْ رسولٌ مِنْ أنفسكم عزيزٌ عليه ما عَنِتُّمْ حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم) (سورة التوبة، الآية 128)، فجعل من أوصافه الشريفة -عليه صلوات الله وتسليماته- أنه يشق عليه أن يقع لنا العَنَتُ والتعب، وأنه حريص علينا، وأنه رحيم بالمؤمنين، رؤوف بهم، يسعى -عليه الصلاة والسلام- فى رخاء الإنسان وراحته فى الدنيا والآخرة، فهذه هى المروءة الكاملة فى أرقى صورها، وأكمل معانيها، فإذا قام الإنسان منا بالفرائض والسنن، ثم كان مع ذلك عديم المروءة، يقتحم الناس من أجل الحفاظ على خططه الخاصة، ومشاريعه المستقبلية، قليل الشعور بآلامهم، لا ينشغل باطنه بمدِّ يد الرفق والرحمة إليهم، فلا عبادة له. قال الإمام فخر الدين الرازى فى: (مفاتيح الغيب): «قيل للسرى السقطى: كيف يجب الإتيان بالطاعة؟ قال: أنا منذ ثلاثين سنة أستغفر الله عن قولى مرة واحدة: (الحمد لله)، فقيل: كيف ذلك؟ قال: وقع الحريق فى بغداد، واحترقت الدكاكين والدور، فأخبرونى أن دكانى لم يحترق، فقلت: الحمد لله، وكان معناه أنى فرحت ببقاء دكانى حال احتراق دكاكين الناس، وكان حق الدين والمروءة أن لا أفرح بذلك، فأنا فى الاستغفار منذ ثلاثين سنة عن قولى: الحمد لله»، فهذا أنموذج جليل لرجل عارف بالله، أثمرت عبادته مروءة وإنسانية، وما طابت نفسه بنجاة أمواله وممتلكاته الخاصة، فى الوقت الذى تهلك فيه ممتلكات الناس من حوله، وبلغ من أدبه الرفيع أن يستغفر الله تعالى ثلاثين سنة من تلك المرة التى غفل فيها لوهلة عن مقتضى المروءة، ثم أفاق سريعا على شدة الشعور بالناس، إنه الإنسان النبيل، الناصع القلب، الذى يتعبد إلى الله تعالى صدقا وتقربا، عن معرفة وحضور وخشية، فيمتلئ باطنه بالمروءة، (وللحديث بقية).