ربما تكون هذه هى المرة الأولى التى لن يغادر فيها الوفدان الأمريكى والإسرائيلى مقاعدهما داخل اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا الأسبوع، عندما يبدأ الرئيس الإيرانى الجديد حسن روحانى فى إلقاء خطابه، كما كان يحدث مع الرئيس السابق أحمدى نجادى على امتداد فترتى حكمه، على العكس ثمة ما يشير إلى رغبة واشنطن فى أن تصيخ السمع لخطاب الرئيس الإيرانى الجديد أمام الجمعية العامة، لعله يلقى المزيد من الضوء على موقف إيرانى جديد أكثر ميلاً للاعتدال، يناقض خطابات الرئيس السابق أحمدى نجادى التى كانت تمتلئ بالتهكم والسخرية من سياسات واشنطن وإسرائيل، ويسعى إلى فتح صفحة جديدة فى علاقات إيران والغرب، بعد أن تزايدت إشارات الرئيس حسن روحانى على امتداد الأسابيع الماضية تؤكد رغبة إيران القوية فى إنهاء عزلتها وتصحيح علاقاتها الدولية، واستعدادها لإبداء قدر أكبر من المرونة والوصول إلى تسوية سلمية لمشكلة الملف النووى الإيرانى تحفظ لكل أطراف الصراع مصالحها، وعزمها على تصحيح علاقاتها الإقليمية والعربية، والاشتباك مع دول الجوار فى حوار بناء يحقق فائدة مشتركة للجميع. ثم جاءت موافقة طهران على الاقتراح الروسى بوضع مخزون الأسلحة السورية الكيماوية تحت الرقابة الدولية، لتفتح أبواب الحوار على مصاريعها بين واشنطنوطهران، عبر خطابين تبادلهما الرئيس حسن روحانى مع الرئيس الأمريكى أوباما. أكد «روحانى» فى خطابه رغبة طهران فى تسوية سلمية لأزمة الملف النووى، ورفضها القاطع لإنتاج سلاح نووى. بينما أبدى الرئيس الأمريكى قبوله تسوية سلمية لهذه المشكلة، تؤكد سلمية برنامج إيران النووى وخلوه التام من أى برنامج عسكرى، مطالباً طهران بأن تسارع بإثبات حسن نياتها على نحو عملى، لأن فرص التسوية السلمية للأزمة لن تبقى مفتوحة إلى الأبد. ثم تعددت الإشارات وازدادت كثافتها، تؤكد تنحية إيران لطاقم التفاوض القديم المختص بقضية الملف النووى واستبدالهم بأشخاص أكثر اعتدالاً، وتتحدث عن إمكانية موافقة إيران على غلق معامل «فوردو» لتخصيب اليورانيوم، القريبة من منطقة قم، واستعدادها لإخلائها من أجهزة الطرد المركزى تحت رقابة المفتشين الدوليين، تأكيداً لحسن نيات طهران. بينما يبدى رئيس البرنامج النووى الإيرانى استعداده لمزيد من التعاون مع الوكالة النووية للطاقة خلال اجتماعات جمعيتها العمومية الأخيرة. ثم جاءت تصريحات المرشد الأعلى على خامنئى، التى أعلن فيها عزم طهران على إظهار المزيد من المرونة، لتؤكد للأمريكيين أن الرئيس الجديد حسن روحانى يتمتع بمساندة واضحة من خامنئى، الذى يملك القول الفصل فى قضايا إيران الاستراتيجية، بما فى ذلك قضية الملف النووى، ويسيطر على كل مؤسسات الدولة الفاعلة ابتداء من الجيش إلى الأمن والحرس الثورى والإعلام والمخابرات. ولإظهار المزيد من حسن النيات حرص الرئيس الإيرانى على أن ينشر فى صحيفة واشنطن بوست الأمريكية صباح يوم وصوله إلى نيويورك على رأس وفد إيرانى، يضم عضواً يهودياً فى مجلس النواب، مقالاً يدعو فيه إلى توازن المصالح بين القوى الإقليمية والعالمية، والاشتباك الإيجابى مع مشاكل عالمنا المعقدة، بما يهيئ فرص تسويتها لصالح جميع الأطراف وليس لصالح طرف واحد، كما يدعو الجميع إلى نبذ أساليب الحرب الباردة، لأن هذه الأساليب تؤدى إلى خسارة الجميع. والواضح الآن أن الإدارة الأمريكية على اقتناع كامل بأن «روحانى» يمثل توجهاً جديداً يختلف تماماً عن توجهات سلفه «نجاد»، ويحمل نوعاً من التفويض من المرشد الأعلى، صاحب السلطة النهائية. وربما يكون من المفيد أن يلتقى مع الرئيس الأمريكى أوباما على هامش اجتماعات الجمعية العامة فى إطار عملية استكشاف متبادل، هى الأولى من نوعها منذ عام 1979عندما التقى شاه إيران مع الرئيس كارتر قبل بداية أزمة الرهائن، مع التزام واشنطن التأكيد المستمر على ثبات مواقفها من قضية الملف النووى وأنها يمكن أن تلجأ إلى الخيار العسكرى، ولن ترفع العقوبات عن إيران أو تخففها لمجرد إبداء حسن النيات، وما لم تكن هناك خطوات عملية محددة تلتزم بها طهران تؤكد سلمية برنامجها النووى وتحاصر وتعقم إمكاناتها لتصنيع سلاح نووى فسوف تستمر العقوبات، وربما تزداد ضراوة. ويزيد من اعتقاد واشنطن بضرورة أن تتمسك بقدر واضح من التشدد إحساس الأمريكيين بأن الأثر الضخم الذى أحدثته قرارات العقوبات الدولية على الاقتصاد الإيرانى، كان القوة الدافعة الرئيسة وراء التغير الذى حدث فى الموقف الإيرانى، بعد أن هبطت أسعار العملة الإيرانية وارتفعت نسبة التضخم، وامتنعت البنوك التجارية العالمية عن التعامل مع إيران، وتم تشديد الحصار على صادراتها البترولية إلى الخارج، وانخفضت موارد الخزانة الإيرانية، وحققت بعض عمليات الاختراق التى تمكنت من تعطيل البرنامج الإيرانى النووى نجاحاً ملحوظاً أكثر من مرة، وزاد على ذلك المخاوف المتصاعدة داخل دوائر الحكم من أن يؤثر استمرار العقوبات الاقتصادية على حالة الاستقرارالأمنى، ويعاود الإيرانيون الخروج إلى الشوارع فى تظاهرات صاخبة كما حدث فى الثورة الخضراء عام 2009، خاصة أن الأزمة الاقتصادية تعض الجميع وتزداد قسوة. لكن ما من شك أيضاً فى أن الرئيس أوباما يتحسس على نحو حذر خطواته مع طهران، تحسباً لضغوط إسرائيل ومحاولات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إفشال أى فرص تقارب بين واشنطنوطهران، وسعيه إلى فرض شروط شبه مستحيلة على طهران ثمناً لتسوية أزمة الملف النووى؛ فى مقدمتها الوقف الكامل لكل أعمال تخصيب اليورانيوم، وإخراج كميات اليورانيوم التى تم تخصيبها خارج إيران كى لا يبقى هناك مخزون من المواد يساعد على تصنيع قنبلة نووية، إضافة إلى إغلاق كافة منشآت إيران النووية وتدميرها. على حين يرى الإيرانيون ضرورة الحفاظ على حقهم القانونى فى تخصيب اليورانيوم بدرجة منخفضة، تمكنهم من تصنيع الوقود النووى لمحطات توليد الكهرباء تحت الإشراف الكامل للرقابة الدولية، إضافة إلى قبولهم التفتيش المفاجئ على كافة المنشآت العسكرية والسيادية، تنفيذاً لملحق اتفاقية حظر الأسلحة النووية. وإذا كان صحيحاً أن طهران على استعداد لإغلاق معامل «فوردو»، التى كان يتم تجهيزها لرفع نسب تخصيب اليورانيوم إلى الحدود التى تمكن طهران من إنتاج نظائر طبية مشعة (20% أو أكثر)، فربما يكون من الصعب على طهران أن تقبل شروط إسرائيل التى تطالب بإغلاق وتدمير كافة معاملها النووية، كما تلزمها بالوقف الكامل لكل أعمال تخصيب اليورانيوم، بما فى ذلك التخصيب المحدود لإنتاج وقود نووى لتشغيل محطات الكهرباء، خاصة أن معاهدة حظر انتشار الأسلحة لا تنص على منع التخصيب. ومهما تكن سلطات الرئيس أوباما المطلقة فى استخدام القوة العسكرية لضمان أمن الولاياتالمتحدة فإن كراهية الأمريكيين لحرب جديدة فى الشرق الأوسط بعد الذى حدث فى أفغانستان والعراق، تشكل واحداً من أهم المحددات التى تضع قيوداً على سلطة الرئيس الأمريكى، وتعطيه الفرصة فى قبول صفقة متوازنة مع إيران ترعى حقوقها القانونية وتعترف بحقها فى إنتاج وقود نووى منخفض التخصيب وامتلاك أساليب التكنولوجيا النووية السلمية كما امتلكت المعرفة الكاملة بدورة إنتاج الوقود النووى، وتضمن فى الوقت نفسه وعلى نحو واضح ومؤكد انعدام فرص استخدام البرنامج الإيرانى النووى لإنتاج أسلحة نووية. ولا مناص فى النهاية من الاعتراف بأن خامنئى الذى ساند سياسات أحمدى نجاد المتشددة، هو نفسه الذى يقف الآن وراء سياسات «روحانى» المعتدلة، أملاً فى تسوية سلمية ترتضيها كرامة إيران، تحفظ لطهران حقها فى الاستخدام السلمى للطاقة النووية، الهدف الذى يجمع عليه كل الإيرانيين ويتوحدون من أجله، وربما يؤدى الإخفاق فى تحقيقه إلى عودة إيران إلى مواقف أكثر تشدداً بسبب تعسف الولاياتالمتحدة وإسرائيل فى مطالبهما، خاصة أنه فى الوقت الذى تضع فيه سوريا مخزونها من الأسلحة الكيماوية تحت رقابة دولية تمهيداً لتدميره، وتبذل إيران جهودها من أجل حل وسط لبرنامجها النووى يؤكد التزامها بعدم إنتاج سلاح نووى، تمتلك إسرائيل طبقاً لآخر التقارير الدولية 80 قنبلة نووية يمكن مضاعفة أعدادها فى غضون عام، كما تمتلك أسلحة دمار شامل بيولوجية وكيماوية، لكنها تتمتع تحت سطوة الولاياتالمتحدة ومعاييرها المزدوجة بحصانة خاصة، تعفيها وحدها من دون دول العالم أجمع من التوقيع على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، كما تعفيها من التفتيش الدولى على مفاعلاتها ومعاملها لصنع أسلحة الدمار الشامل، الأمر الذى بات من الصعب قبوله فى عالم جديد، يرفض هيمنة القطب الواحد، ويتجه إلى أن يكون عالماً متعدد الأقطاب.