محمد علي، عبد الناصر والسيسي.. ثلاثة زعماء كانوا سبب إعلان تركيا عدائها الواضح والصريح إبان فترات حكهم لمصر. بدأت أولى فصول العداء التركي تجاه مصر عام 1831، عندما قلق السلطان العثماني من تزايد نفوذ محمد علي باشا في المنطقة، فخلف اتفاقه ووعده له بمنحه سوريا بعد حرب استقلال اليونان، حيث طلب السلطان العثماني من محمد علي العون والمساعدة العسكرية، خصوصا من الأسطول المصري، في إخماد ثورة الاستقلال اليونانية مقابل أن يمنحه النفوذ والسيطرة على سوريا، ولكن بعد أن وضعت الحرب أوزارها خلف السلطان العثماني وعده ومنح محمد علي جزيرة كريت فقط وليس سوريا حسب الاتفاق، مما جعل محمد علي يعلن الحرب على الدولة العثمانية، وعين ابنه (إبراهيم باشا) قائدا لتلك الحرب. استطاعت القوات العسكرية المصرية بقيادة إبراهيم باشا الاستيلاء والسيطرة على كامل سواحل فلسطين ولبنان بسرعة مذهلة، بل وخلال أيام كان قد سيطر على دمشق وألحق خسائر فادحة بالقوات العثمانية المتواجدة في تلك المناطق، مما جعل السلطان العثماني يدرك أن محمد علي لا يهدد نفوذه فقط في المنطقة، ولكن يهدد نفوذ الإمبراطورية العثمانية نفسها، فأرسل له جيشا جديدا بقيادة عسكرية رفيعة، بقيادة رشيد محمد باشا والى منطقة (قونية) وهي وسط تركيا الآن، ودارت معركة كبيرة انتصر فيها الجيش المصري انتصارا ساحقا، رغم أن الجيش العثماني وقتها كان أكبر عددا وعدة، مما اضطر السلطان العثماني أن يستنجد بالإمبراطور الروسي، الذي أرسل له جيشا ضخما ليحمي العاصمة استنبول من الوقوع في يد الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا. عاد العداء التركي تجاه مصر للظهور مرة أخرى عام 1954، عندما قام السفير التركي بتوجيه ألفاظ نابية لعبد الناصر، إضافة لهجومه المستمر على ثورة 23 يوليو، فقامت مصر بطرد السفير التركي وقتها واعتباره غير مرحب به، ولم تنته حقبة العداء التركي تجاه ناصر عند هذا، بل قامت تركيا برفض الوحدة المصرية السورية عام 1961، في تحد صارخ لسيادة الدولتين. تجدد العداء التركي تجاه مصر عام 2013 بمجرد إعلان سقوط الرئيس المخلوع مرسي، وسقوط حكم جماعة الإخوان الإرهابية في مصر، وسارع أردوغان بوصف ما حدث بأنه انقلاب عسكري، رغم الملايين التى خرجت تطالب بإسقاط شرعية نظام حكم المرشد، وإنهاء حكم جماعة الإخوان الإرهابية لمصر بلا رجعة. فالعداء التركي تجاه مصر قديم وعتيق، دائما يظهر -لو لا حظنا- عندما تقرر مصر أن تكون دولة مستقله ذات سيادة وتأخذ مكانها ودورها الحقيقي في المنطقة، فنجد أن السلطان العثماني خلف اتفاقه مع محمد علي لأنه شعر أنه حول مصر إلى دولة مستقلة، ولم تعد مجرد ولاية من ولايات الباب العالي، وبالتالي ستهدد نفوذه في المنطقة، وبعد مرور عشرات السنين يعاود العداء في الظهور بمجرد نجاح ثورة 23 يوليو، وبعد أن أصبحت مصر يحكمها المصريين، وتحررت من الاستعمار والتبعية للقوى الاستعمارية وقتها. لكن يا ترى ما سر غضب أردوغان من ثورة 30 يونيو ووصفه ما حدث بالانقلاب؟ ومحاولته مرات عديدة في محافل دولية، أهمها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2014، أن يعزل مصر دوليا، حيث طالب بذلك صراحة في خطاباته بعد نجاح ثورة 30 يونيو، ماذا كان سيقدم الإخوان لهذا الأردوغان ليقرر قطع العلاقات التركية مع مصر ويطالب بعزلها ومقاطعتها دوليا؟ إلى هذا الحد نسفت ثورة 30 يونيو طموحات وأطماع أردوغان في تزعم المنطقة، خصوصا أن من تداعيات إسقاط جماعة الإخوان الإرهابية، هي أن الموقف المصري من سوريا أصبح معاكسا تماما، بعد أن كان متفقا مع الرؤية التركية، حيث حول الإخوان مصر إلى مجرد تابع للاستراتيجيات التركية في المنطقة، ولكن لم يعي الإخوان وأردوغان أن الشعب المصري لديه مخزون حضاري يستدعيه عند الشعور بالخطر، ويرفض أن يكون تابعا أو مجرد منفذ لسياسة أي قوى في المنطقة، كل تلك الأحداث التاريخية السابق سردها لم تكن مجرد محض صدف تاريخية، وإنما هى نابعة من إدراك الأتراك أن استقلال القرار المصري يوثر سلبا على نفوذ الدولة التركية في المنطقة ويحجم أطماعها ويحاصر توغلها. لا أجد أروع لختام تلك السطور إلا ما قاله العبقري جمال حمدان في وصف تركيا: " ليس أكثر من تركيا نقيضا تاريخيا وحضاريا لمصر، هي بلا تاريخ، بلا جذور جغرافية، انتزعت من الاستبس كقوة شيطانية مترحلة، واتخذت لنفسها من الأناضول وطنا بالتبني. وبلا حضارة هي بل كانت طفيلة حضارية خلاسية استعارت حتى كتابتها من العرب، ولكن أهم من ذلك تمثل قمة الضياع الحضاري والجغرافي، غيرت جلدها أكثر من مرة، الشكل العربي استعارته ثم بدلته باللاتيني، والمظهر الحضاري الآسيوي نبذته وادعت الوجهة الأوروبية، ولعلها بين الدول كما مثل الدولة التى تذكر بالغراب يقلد مشية الطاووس".