قُتل مَن قُتل من آل بيت النبى فى كربلاء، وسِيق مَن بقى أسارى إلى الشام. يقول ابن كثير: «وأما بقية أهل الحسين ونسائه، فإن عمر بن سعد وكّل بهم من يحرسهم ويرعاهم، ثم أركبوهم على الرواحل فى الهوادج، فلما مروا بمكان المعركة ورأوا الحسين وأصحابه مطرحين هنالك، بكته النساء وصرخن، وندبت زينب أخاها الحسين وأهلها، فقالت وهى تبكى: يا محمداه يا محمداه صلى عليك الله ومليك السماء. هذا حسين بالعراء مزمل بالدماء مقطع الأعضاء يا محمداه، وبناتك سبايا وذريتك مقتلة تسفى عليها الصبا، فأبكت والله كل عدو وصديق». لم تكن السيدة الجليلة تبكى عن ضعف أو عدم رضاء بقضاء الله وقدره، بل كانت دموع الرأفة والحنان على أخيها الذى قضى شهيداً وعلى أبناء عمومتها، وصبية آل البيت الذين لم ترحمهم سيوف السلطة، والباحثين عن السلطة، لكنها -كما ذكرت لك- كانت مؤمنة بقضية آل بيتها أشد الإيمان، وكانت متحملة فى إباء وشمم ثمن التمرد على يزيد ومنابذته العداء، فلملمت شعث سيدات البيت النبوى، وقادتهن إلى حيث يحكم يزيد فى بلاد الشام. لم تكن السيدة المؤمنة قد وصلت إلى الشام بعد حين التقت عبيد الله بن زياد قائد جنود يزيد الذين واجهوا آل البيت فى كربلاء. وتشهد المواجهة التى اشتمل عليها اللقاء أن السيدة زينب لم تضعف أو تلين أو تهتز أو تنكسر، بل واجهت بشجاعة لا يملك أن يواجه بها أعتى الرجال مثل هذه المواقف. «دخلت زينب ابنة فاطمة فى أرذل ثيابها وحفت بها إماؤها، فلما دخلت على عبيد الله بن زياد، قال: من هذه؟. فلم تكلمه. فقال بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة، فقال: الحمد لله الذى فضحكم وقتلكم، وكذب أحدوثنكم، فقالت: بل الحمد لله الذى أكرمنا بمحمد وطهرنا تطهيراً لا كما نقول، وإنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر. قال: كيف رأيت صنع الله بأهل بيتكم؟. فقالت: كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فيحاجونك إلى الله، فغضب ابن زياد واستشاط، فقال له عمرو بن حريث: أصلح الله الأمير إنما هى امرأة. وهل تؤاخذ المرأة بشىء من منطقها؟. إنها لا تؤاخذ بما تقول ولا تلام على خطل. لم يعكس كلام السيدة زينب خطلاً أو خرفاً من أى نوع، وإنما عكس ثباتاً وصلابة امرأة تدافع عما تؤمن به، ولم يكن وصف عمرو بن حريث لكلامها بهذا الوصف أكثر من محاولة لتحفيف وطأته على «ابن زياد»، لأن كلامها كان حاسماً وباتراً، ليشهد على أن تلك السيدة لا تلين، مهما قست الظروف عليها، ومهما اشتدت الخطوب، لأنها كانت تملك نفسية مناضلة مقاتلة، قادرة على الدفاع عن قضيتها بكل ما أوتيت من قوة. لولا ثبات السيدة زينب لاجتثت شأفة نسل النبى محمد صلى الله عليه وسلم يوم كربلاء، فقد نافحت عن آخر ذكر تبقى من أبناء الحسين، وهو على الأصغر أو على زين العابدين، وحالت دون وصول سيوف بنى أمية إليه. فقد نظر ابن زياد إلى على وهو بين النسوة وقال: انظروا هذا أدرك؟. والله إنى لأحسبه رجلاً، فكشف عنه مرى بن معاذ، فقال: نعم قد أدرك. فقال: اقتله. فقال على بن الحسين: من يوكل بهذه النسوة؟. وتعلقت به زينب عمته، فقالت: يا ابن زياد حسبك منا ما فعلت بنا. أما رويت من دمائنا؟. وهل أبقيت منا أحداً؟. واعتنقته وقالت أسألك بالله إن كنت مؤمناً إن قتلته لما قتلنى معه. رضى الله عن تلك السيدة التى واجهت مواقف عصيبة تنوء بها أعتى الشخصيات، متسلحة بما حباها الله تعالى من إيمان عميق!.