وضعت المذبحة أوزارها، واستشهد «الحسين» يوم الجمعة يوم عاشوراء من المحرم سنة إحدى وستين، وله من العمر ثمان وخمسون سنة أو نحوها. وأمر قاتله «عبيد الله بن زياد» فنودى: الصلاة جامعة. فاجتمع الناس، فصعد المنبر، فذكر ما فتح الله عليه من قتل «الحسين» الذى أراد أن يسلبهم الملك ويفرق الكلمة عليهم، فقام إليه عبدالله بن عفيف الأزدى، فقال: ويحك يا «ابن زياد» تقتلون أولاد النبيين، وتتكلمون بكلام الصديقين، فأمر به «ابن زياد» فقتل وصلب، ثم أمر برأس «الحسين» فنصب بالكوفة وطيف به فى أزقتها، ثم سيّره مع زحر بن قيس ومعه رؤوس أصحابه إلى يزيد بن معاوية بالشام. «تقتلون أولاد النبيين وتتكلمون بكلام الصديقين» هكذا قال «عبد الله بن عفيف» عاتباً على «ابن زياد» الذى اعتلى المنبر كى يبرر قتله «الحسين» الذى نازع بنى أمية «الملك». ها هى الكلمة التى تشكل مفتاح السر فى نظرة «بنى أمية» إلى الأمر منذ البداية، ها هى الكلمة التى قفزت على لسان أبى سفيان بن حرب، عندما شاهد النبى يدخل مكة فاتحاً وحوله آلاف المسلمين، حين قال للعباس بن عبدالمطلب «لقد صار ملك ابن أخيك عظيماً»، فرد عليه «العباس»: «إنها النبوة». وبمقاييس الملك وحسابات السياسة يرى الكثير من المؤرخين والكتاب أن «الحسين» قد أخطأ بخروجه لمجابهة يزيد بن معاوية، فى قلة من أشياعه وأنصاره، انسياقاً وراء حسابات غير دقيقة بأن أهل العراق ناصروه، وهى وجهة نظر لا تخلو من وجاهة، إذا كان «الحسين» قد فكر من هذا المنظور، لكن المسألة تبدو مختلفة جد الاختلاف، إذا راجعنا مشهد «الثورة الحسينية» جيداً التى خرج صاحبها مدفوعاً بحسابات الدين، وليس السياسة، وبقيم النبوة، وليس بقيم الملك. سار ركب مَن بقى من أهل بيت النبى من نساء وصبية حزيناً كسيراً، ووكّل بهم عمر بن سعد من يحرسهم ويرعاهم ثم أركبوهم على الرواحل فى الهوادج، فلما مروا بمكان المعركة ورأوا «الحسين» وأصحابه مطروحين هنالك بكته النساء وصرخن وندبت «زينب» أخاها «الحسين»، وصل الركب الكوفة، ودخلت «زينب» ابنة «فاطمة» فى أرذل ثيابها وقد تنكرت -أى تغير شكلها- وحفت بها إماؤها، فما رآها عبيد الله بن زياد -كما يحكى ابن كثير- قال: «من هذه؟ فلم تكلمه، فقال بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة، فقال: الحمد لله الذى فضحكم وقتلكم وكذب أحدوثنكم، فقالت: بل الحمد لله الذى أكرمنا بمحمد وطهرنا تطهيراً، لا كما تقول، وإنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، قال: كيف رأيت صنع الله بأهل بيتكم؟ فقالت: كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فيحاجونك إلى الله، فغضب ابن زياد واستشاط، فقال له عمرو بن حريث: أصلح الله الأمير إنما هى امرأة، وهل تؤاخذ المرأة بشىء من منطقها؟ إنها لا تؤاخذ بما تقول ولا تلام على خطل». واصل الركب الحزين سيره من الكوفة -مصحوباً برأس الحسين بن على- حتى وصل إلى الشام، ودخلوا على يزيد بن معاوية. ويروى «ابن كثير» أنه لما لما وضع رأس «الحسين» بين يدى «يزيد» جعل ينكت بقضيب كان فى يده فى ثغره ثم قال إن هذا وإيانا كما قال الحصين بن الحمام المرى: «يفلقن هاما من رجال أعزة * علينا وهم كانوا أعق وأظلما». فقال له أبوبرزة الأسلمى: أما والله لقد أخذ قضيبك هذا مأخذاً، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرشفه، ثم قال: ألا إن هذا سيجىء يوم القيامة وشفيعه محمد، وتجىء وشفيعك ابن زياد، ثم قام فولّى»، وقد نفى «ابن كثير» هذه الرواية بعد أن حكاها، وقال إنه «لا يتصور أن يكون يزيد قد تمثل بهذه الأبيات هذه الأيام، فالمؤرخون قاطبة ذكروا أنه تمثّل بها، لما جاءه خبر وقعة الحرّة بالمدينة الشريفة وقتل الأنصار، ووقعة الحرّة بعد قتل الحسين، وأيضاً فإن قضية الحسين رضى الله عنه لم يكن حاضرها أحد من الخزرج (يقصد أبا برزة الأسلمى الذى لم يعجبه موقف يزيد فأنّبه بالكلام وترك المجلس)». لكن السؤال الذى يفرض نفسه فى هذا المقام: هل من العجيب أو الغريب أن يتردد من أعطى تصريحاً بقتل حفيد النبى صلى الله عليه وسلم فى وصفه -بعد ذبحه- بالعقوق والظلم؟ إن «يزيد» يقدم بهذا الوصف الجائر المبرر الأخلاقى -من وجهة نظره- لقتل الحسين بن على. ويستغرب المحلل من أمر هؤلاء المؤرخين الذين يثبتون جريمة التحريض وإعطاء الأوامر بالقتل على شخص، ثم يسارعون بعد ذلك إلى نفى بعض الكلمات التى رددها القاتل فى وصف القتيل.