أغلب الظن أن لجنة الخمسين ستمرر في تصويتها النهائي المادة الخاصة بمحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية بصورتها التي قدمتها المؤسسة العسكرية بها للجنة وظهرت في مسودتها الأولي، والتي نشرها حساب اللجنة شبه الرسمي على موقع التواصل الاجتماعي تويتر، بينما صرح المتحدث الرسمي باسم اللجنة بأنها مجرد تسريبات! المادة في صورتها الحالية قد تضخمت بصورة ملحوظة مقارنة بما كانت عليه في دستور 2012 المعطل. أما مقارنة بما كانت عليه في الدساتير السابقة على ثورة 25 يناير فإن مادة المحاكمات العسكرية للمدنيين قد نمت من سطر مقتضب إلى ما يقارب صفحة كاملة من العك الإنشائي العقيم. من المؤلم أن يضطر المرء إلى تفسير حقيقة أن 50 رجل وامرأة قد قرروا تجاهل كل ما سببته المحاكمات العسكرية للمدنيين من معاناة لآلاف الأسر المصرية، فسمحوا بأن يكون الدستور نفسه أداة لجعل معاناة المزيد من هذه الأسر شرعيا ودستوريا. ولكن الحقيقة أن حسابات كتابة الدساتير تنتمي إلى واقع مختلف عن واقع الحياة اليومية للناس العاديين. فالدساتير والقوانين تعكس في وقت كتابتها التوازنات الباردة للقوى المختلفة الفاعلة في المجتمع. ولذا فلا مكان لمعاناة البشر في هذه التوازنات إلا إذا أمكن تحويلها إلي أداة ضغط، وحينها تفتقد إلى حرارة التعاطف الإنساني وتتحول إلى رقم وسط أرقام أخرى للمصالح وصفقات تبادل المنفعة. المؤلم أكثر هو محاولة التعامل مع التبريرات المستخدمة لتمرير استمرار المحاكمات العسكرية سيفا مصلتا على رقاب المدنيين. فبينما يمكنك أن تكره الحسابات الباردة لتوازنات القوى والمصالح قدر ما تشاء، إلا أنه لا يمكنك تجاهل أن ثمة منطق ما فيها. منطق انتهازي ولا إنساني، هذا صحيح، ولكنه يبقى منطقا يمكن فهمه ودراسته وتفكيكه والتعامل معه. ما يفتقد إلى المنطق هو التبريرات التي يسوقها من لا مصلحة حقيقية لهم، وهم يصرون عليها كمسلمات لا يرقى إليها الشك رغم أنها لا تنبني إلا على أوهامهم ومخاوفهم. وما هو أسوأ من ذلك أنها تكشف عن مدى استعدادهم للتخلي عن أبسط مبادئ العدالة وعن مظاهر التعاطف الإنساني الأساسية أيضا، لمجرد أنهم غير قادرين على مواجهة هذه الأوهام والمخاوف واكتشاف مدى تهافتها وسذاجتها. التبرير الأكثر شيوعا بين المدافعين عن المحاكمات العسكرية للمدنيين هو أنها رادع ضروري لمن تسول له نفسه الاعتداء على القوات المسلحة في الوقت الذي تخوض فيه حربها ضد الإرهاب الأسود الذي يتهدد وجود الدولة المصرية ذاتها! وإذا ما تركنا جانبا فكرة أن وجود الدولة المصرية مهدد، ولم نشغل أنفسنا بلون الإرهاب إن كان أسودًا أو رماديًا أو غير ذلك، فلا أحد بالتأكيد يرضى بأن تتعرض قواتنا المسلحة للاعتداء عليها. فأفرادها هم أبناء هذه الشعب ومنشآتها ومعداتها إلخ هي من ممتلكاته والقوات المسلحة إجمالا هي أداته لرد العدوان عن أراضيه وعن حياته. لا حاجة لتكرار هذه المسلمات. ولكن المشكلة تكمن في فكرة أن تكون المحاكمات، عسكرية أو مدنية، أداة ردع. المحاكمة هي عملية الهدف منها هو كشف الحقيقة. بالنسبة إلى أي شخص قد ارتكب جرما أو ينوي ارتكابه الرادع هو في العقوبة وفي عدم إمكان إفلاته منها. فإذا لم يتوافر هذا الرادع فلا يهم هذا الشخص كيف سيتم الكشف عن الحقيقة التي تدينه فهو يعلم أنه مدان على أي حال، وإذا افتقدت عملية إدانته إلى شروط العدالة فهذا لن يغير من الأمر شيئا. الأبرياء وحدهم يعتمد مصيرهم على أن تكون عملية الكشف عن الحقيقة صحيحة، لأنه في هذه الحالة وحدها يمكن لبراءتهم أن تثبت ويفلتون من عقوبة لا يستحقونها. المحاكمة العسكرية التي لا تتوافر لها شروط العدالة هي شبح مخيف للأبرياء وحدهم أما بالنسبة لمرتكبي الجرائم هي تحصيل حاصل. ولكن إذا كان من السهل توضيح تهافت وسذاجة هذا المبرر، كيف يبقى هو الأكثر شيوعا؟ وكيف يصر مستخدموه على التمسك به حتى وإن واجهتهم بأنه ببساطة غير صحيح؟ السبب في الحقيقة أن المنطق المناقض لهذا التبرير يستند على افتراض أن بعض من يقدمون للمحاكمة هم أبرياء. في الواقع يفترض أن كل من يقدم إلى المحاكمة هو متهم بريء حتى تثبت إدانته. ولكن المشكلة أن هذا المبدأ البسيط غائب تماما عن وعي المطالبين بالمحاكمات العسكرية كرادع. هم ببساطة يفترضون أن كل من يمكن تقديمه للمحاكمة مدان مسبقا ومن ثم هم مهتمون برادع السرعة وبساطة الإجراءات التي ستصل بهذا المجرم المدان إلى العقوبة التي يستحقها في أقصر وقت ممكن. احتمال أن يكون المتهم بريء غير قائم في تصورهم ومن ثم لا يهمهم أن تتوافر أي ضمانات لإثباته. الإدانة عندهم هي تحصيل حاصل ويستحسن بل ينبغي أن تتم بسرعة. أما أي ضمانات للدفاع أو للتشكيك في أدلة الاتهام فهي في اعتقادهم ثغرات تتيح للمجرم الإفلات من العقاب. ومن ثم فلا ينبغي أن يترك للمحاكم المدنية التي تتوافر فيها هذه الضمانات أن تنظر في قضايا هي بالنسبة لهم محسومة فتكون سبيلا لأن يفلت أعداء الوطن من العقاب الواجب إنزاله بهم! الإشكالية هنا أننا أمام رغبة محمومة في التمسك بأداة لأنها تحديدا قمعية، وتجنب أداة أخرى تحديدا لأنها قد لا توفر القدر المطلوب من القمع. وما وراء ذلك هو يقين بالإدانة المسبقة التي لا تتعلق فقط بمن يساقون إلى المحاكمات العسكرية من المدنيين ولكنها تتسع لفئات كاملة من الشعب. بعبارة أخرى البعض يعيش أجواء حرب أهلية، وهو يعتبر فئات بعينها من المجتمع معادية للدولة ومن ثم هو يرغب في أن يتم تعقبهم والتنكيل بهم. لا يهم مطلقا في هذا الإطار الطريقة التي يتم بها القبض على أحد من هؤلاء الأعداء، ولا أهمية لما سيوجه إليه من تهم، يفضل فقط أن تكون اتهامات تكفل تغييبه في السجون لأطول فترة ممكنة. أما افتراض أن تكون التهم ملفقة فيصعب إثباتها فينبغي تجنبه من خلال أداة المحاكمة العسكرية التي ستتيح إدانة مضمونة وسريعة. مفهوم البراءة القانوني هنا ليس غائبا نتيجة سهو أو سوء فهم بل مغيب عمدا لأنه لا مكان له في الحرب التي يتخيل هؤلاء أن المجتمع منخرط فيها. قبول المحاكمات العسكرية للمدنيين والدفاع عن ضرورة استمرارها هو فقط أحد مظاهر ذهنية الحرب الأهلية هذه. فهي تظهر في مواقف هذه الفئة من الناس من تعامل الشرطة مع التظاهرات أيا كان منظموها والمشاركين فيها، وتظهر في تشجيعهم لتواطؤ النيابة المدنية وحبسها لضحايا عمليات القبض العشوائي احتياطيا لمدد طويلة على ذمة تهم واضحة التلفيق ويعيبها الشيوع وغياب المسؤولية الشخصية وغير ذلك من القواعد القانونية التي لم يعد كثيرون يرون فيها إلا عائقا يحول دون النصر في معارك الحرب المستعرة في الشوارع. هذه الذهنية تتجلى أيضا في تبريرات من يسوقون لقوانين قمعية مثل قانون (منع) التظاهر وقانون الإرهاب، وتتجلى في أصوات المطالبين بعودة حالة الطوارئ وفرض حظر التجوال. ما يغيب فقط عن خيال أصحاب ذهنية الحرب الأهلية هو حقيقة أن أدوات القمع عمياء لا تميز بين فئة وأخرى. وبغض النظر عن انحطاط مفهوم العقاب الجماعي ولا إنسانيته فمن الغباء أن يسعى أحد إلى تحقيقه من خلال أدوات لا تميز بين من يريد قمعه وبين غيره الذي قد يكون هو نفسه. دائما ما تعمي الرغبة في سحق العدو المتوهم، أو الحقيقي، صاحبها عن أن يضع نفسه في المشهد ويلاحظ أنه لا يختلف عن عدوه في نظر أدوات القمع أو أدوات العدالة على السواء. كما تحول بينه وبين إدراك أن المبادئ العامة للعدالة لا تحمي أعداءه إلا بقدر ما تحميه هو نفسه ولذا فإن الدفاع عن هذه المبادئ ليس مسألة نسبية تخضع للظرف الراهن ويمكن التغاضي عنها مؤقتا إلى حين أن تنتهي الحرب، في واقع الأمر إن زمن الحرب في سيولته وضبابيته هو الوقت الذي يكون فيه التمسك بمبادئ العدالة ضروريا لحمايتنا جميعا من أن نكون ضحايا مجانيين لهذه الحرب. ستقدر قيمة مبدأ "المتهم بريء حتى تثبت إدانته" كثيرا إذا ما أرادت تصاريف القدر لك أن توضع موضع الاتهام دون ذنب، وستندم أشد الندم حينها لو أنك كنت من المدافعين بحماس عن مبدأ " المتهم مدان ولا ينبغي السماح بأن تثبت براءته."