بقلم :المستشار / أيمن محمد عبد الحكم القضاء هو الميزان الذي يحقق العدل وهو التجسيد العملي للعدالة علي أرض الواقع بأن يعطي كل ذي حق حقه وهو الحارس الأمين والحصن الحصين لمبدأ الشرعية وسيادة القانون علي الجميع الحاكم والمحكوم، والقضاء في نزاهته وحياديته واستقلاله والتزامه باجراءاته والالزام بأحكامه يحقق لدي المواطن الأمن والاطمئنان علي نفسه وحياته وعرضه وماله وثقته في بلاده ومستقبلها وسلامة نظامها السياسي، وللقضاء والعدالة صورة رمزية تتمثل في شكل امرأة مجيدة ومحتشمة معصوبة العينين تمسك الميزان المعبر عن الحق والعدل بيد والصولجان أو السيف رمز القوة التي تحمي الحق والعدل باليد الأخري، وذلك كدلالة علي الحيادية والنزاهة فهي لا تري شخص المتهم امامها ولا تهتم بمكانته أو سلطته أو جنسيته أو عقيدته لأن جميع الناس عندها سواسية، والمهم في الأحكام التي تصدرها سلامة القوانين والاجراءات وتحقيق العدل، وهو الدور المنوط به لحماية الحريات وحقوق الافراد وفقاً للدستور والقانون، ومن المعلوم قانونا أن القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون وليس لأحد كائن من كان التدخل في القضاء. مفهوم استقلال القضاء يقصد به عدم جواز التدخل والتأثير من قبل الغير علي ما يصدر عنه من اجراءات وقرارات وأحكام والتدخل والتأثير مرفوض سواء كان مادياً أو معنوياً وسواء تم بكيفية مباشرة أو غير مباشرة، وبأية وسيلة من الوسائل ويدخل في نطاق الممنوع من التدخل، السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، وغيرهما من أشخاص القانون العام والخاص، ويقتضي استقلال القضاء من جهة اخري وجوب امتناع القضاة عن الاستجابة أو القبول أو الخضوع لأي تدخل أو تأثير، وتبعاً لذلك فإن القضاة لا يمكن ان يستجيبوا ويخضعوا الا لصوت القانون والضمير. الهدف من استقلال القضاء: هو حماية هذا الاستقلال وتحقيق العدالة التي لا يمكن ان تتحقق في غياب أحد مقوماتها الأساسية وهو استقلال القضاة وحماية هذا الاستقلال من أي تدخل وتأثير. التأثير السلبي للاعلام علي القضاة: اصبح للاعلام سلطته وآلياته الذاتية في تناول القضايا المجتمعية والتي منها أخبار وتغطيات القضايا والمحاكمات فأصبحنا نقرأ في الصحف تغطية خبرية لقضايا منظورة امام المحاكم تمتلك عناصر الاثارة الاعلامية المطلوبة لتحويلها مادة مستهلكة اعلاميا، وتتلو التغطية الاعلامية كتابات وتعليقات في الصحف وبرامج الفضائيات، والمنتديات والشبكات الاجتماعية، بما يجعل الحكم القضائي محل تعليقات جريئة، ولم نعهد هذا الأمر من قبل، انه امر جديد وخطير علي طرق تدبيرنا للحقيقة، وإن من القضاة من يطالب الآن ويحق بتغليظ عقوبة نشر أمور من شأنها التأثير الاعلامي علي القضاة المنوط بهم الفصل في دعاوي مطروحة امامهم وتوسيع النص بشموله أي وسيلة نشر أخري ليس الصحف والمجلات فحسب، بل بأي وسيلة اخري يتم خلالها تناول القضايا المنظورة امام القضاة بما يؤثر بالقطع علي حيادية القاضي، لكونها جريمة مؤثمة قانونا بموجب المادة 187 من قانون العقوبات، ورغم انه مثلما يحرص القضاة علي استقلالية القضاء، فهم بوصفهم ضمير الأمة يحرصون علي عدم الافتئات علي حرية واستقلالية الاعلام بكافة صوره، فما الذي يضير القضاء في أن يغطي الاعلام القضايا المنظورة - بحيادية وتجرد ومهنية - ودون استباق الاحكام وعقد المحاكمات الموازية كما نجدها الآن بما يسمي برامج التوك شو، من استضافة بعض القانونيين أو اصحاب الفكر واستدراجهم للتعليق والتوقع لما يجب أن تكون عليه اجراءات المحاكمة بل وتوقع العقوبة المفترضة علي المتهمين قبل ادانتهم بحكم نهائي من قاضيهم فأي عبث هذا، وأي اكراه معنوي يمارس علي القاضي وأي تشهير بحق المقدمين للمحاكمة. أنظروا يا أولي الألباب في الأنظمة القضائية التي يعتمد حكم الادانة فيها علي المحلفين وليس علي القاضي - كالنظام الأمريكي - ففيه تلجأ السلطات القضائية الي عزل المحلفين بشكل كامل عن الاعلام طيلة أمد نظر القضية المعروضة ان كانت تلك القضية متناولة من قبل الاعلام، والعزل هنا يعني حجب كل وسيلة اعلامية عن المحلفين من صحف ومجلات وراديو وتلفاز، فلم تلجأ السلطات لتلك الطرق القاسية علي المحلفين؟، الجواب: لأنها الأصوب من الناحية الحقوقية القانونية، لضمان عدم تأثرهم في تكوين قناعاتهم بأي مؤثر خارجي خلافا للمعروض عليهم من معطيات القضية المنظورة، هذا عن المحلفين فما بالكم بالقاضي. القاضي لا يقضي بعلمه الشخصي: ففي الوقت الذي يلتزم القضاء بحياديته واستقلاله، فإنه يسعي الي تحقيق العدالة دون تغليب أي طرف من هذه الاطراف علي الآخر، معتمداً في ذلك علي ما يتوافر امامه من ادلة واسانيد في القضية، ولا يمكن للقاضي بأي حال ان يعتمد أو يستند لما تعرضه وسائل الاعلام من طرح بشأن قضية ما أو حتي يعتقدها صحيحة، كما لا يمكن أيضا اعتماد وجهات النظر والآراء التي يقوم الاعلام بالتركيز عليها لأنها تعتبر خارج اطار الدعوي المنظورة، اذ إنه من القواعد القانونية المستقرة وتأكيدا لمظاهر الحيدة، يجب ان يقتصر القاضي في استدلاله - فقط - علي الادلة المطروحة أمامه والمقدمة من الخصوم، وفقاً للطريق الذي رسمه القانون لتقديمها، ومن ثم فلا يستطيع القاضي الاستناد لعلمه الشخصي بواقعة معينة متعلقة بموضوع النزاع، ولا يستطيع أيضا ان يبني حكمه علي دليل تحراه بنفسه خارج منصة القضاء وجلسة المحاكمة.. ومن ثم فلا مجال للاعلام في تبرير أو خلق صورة متناقضة أو متعارضة مع النص العقابي، والدفع باتجاه تشكيل رأي أو حشد باتجاه معين مخالف لهذه المصادر وبالتالي الاساءة الي القضاء، كما انه يؤثر بالسلب - نفسياً وعملياً علي حسن اداء القضاء لمهمته النبيلة وبالتالي يساهم الاعلام وفقاً لهذا عن قصد أو حتي دون قصد في الاضرار بقضية العدالة ككل. وبالتالي فقد نص قانون العقوبات في مادته الرقيم 187 علي جزاء الجهة التي تنشر أموراً من شأنها التأثير في القضاة الذين انيط بهم الفصل في دعوي مطروحة امام جهة من جهات القضاء، كما نص أيضا علي جزاء كل من نشر باحدي طرق العلانية اخبارا بشأن محاكمة قرر القانون سريتها أو منعت المحكمة نشرها أو تحقيقاً قائماً في جناية أو جنحة أو وثيقة من وثائق التحقيق أو اخبارا بشأن التحقيقات، وما يجري في الجلسات العلنية للمحاكم بسوء قصد ونية وبغير أمانة مهنية بمخالفة قرار المحكمة بسرية ما يجري من تحقيقات في القضية المنظورة امامها. فبات من الضروري معرفة الاعلام بواجبه في هذا الشأن وتجنب الخوض في تفاصيل القضايا المطروحة امام القضاء وتقع علي عاتق الاعلام الالتزام بالمهنية تجنبا للتأثير علي ضمانات واجراءات المحاكمة العادلة، ومن هنا يتعين حجب المعلومات عن الاعلام تجنباً لتلك النتائج التي تؤثر ليس علي مسار القضية المطروحة فحسب، وانما علي القاضي بشكل غير مباشر وتمثل نوعا من الاكراه المعنوي عليه، بل وعلي العدالة بشكل مباشر. ووفق ذلك ينبغي ان تكون المعلومات المتوافرة امام القضاء بعيدة - مؤقتا - عن الاعلام، وهذا الحجب من واقع الاستقلالية التي يتمتع بها القضاء، وهو أمر واجب التقدير والاحترام والالتزام به من الكافة، لأن التحليلات والاستنتاجات التي تنشرها وسائل الاعلام في تناول قضية معينة لم تزل معروضة ومنظورة امام القضاء ستؤثر سلباً في تكوين قناعة ووجدان القاضي، وتتعارض ايضا مع الاعتبارات والضمانات التي وفرها القانون للمتهم في ضمانات المحكمة المنصفة العادلة ويسبقها سرية التحقيق، وهذه السرية توفر الحماية للمتهم من كل تشهير يقع عليه، فالمتهم بريء حتي تثبت ادانته وأن نشر اي معلومات متعلقة بتحقيقات النيابة العامة قد يضر بمصلحة طرف من الاطراف، ولهذا جعل القانون جلسات التحقيق سرية بينما جعل جلسات المحاكمة علنية، بعد أن توافرت الادلة، وقد تعقد المحكمة جلساتها بشكل سري خلافا لمبدأ العلنية في بعض الاحوال المنصوص عليها قانونا، ومن مقاصد العلنية هنا ان يثق الجمهور بحسن سير واداء القضاء في تحقيق العدالة والتطبيق السليم للقانون بما يحقق الردع العام. وعليه فالقضاء ملزم بالتمسك بالاستقلالية والحياد كمبدأ ثابت من الثوابت القضائية، يمارس مهامه بتجرد وحياد، ملزم بحسم القضية المعروضة امامه - فقط - بأدلتها، دون أن يرزح تحت نير قيود وضغوط الاعلام، وأخيراً فإن ترسيخ هيبة السلطة القضائية واحترام استقلاليتها لا يكون بانغلاق القضاء كلياً علي الاعلام، اذا ما نظرنا الي الجانب الايجابي لدور الاعلام المتوازن، الذي لا ينتهك المحظورات، فقد بات من الضروري وجود تنسيق اعلامي بين عمل السلطة القضائية والمؤسسة الاعلامية، مثلما نجد أن رقابة الاعلام تعزز قوة ومنعة القضاء باعتبار ان الاعلام بوابة المعروفة في نشر الثقافة الانسانية. *القاضي بمحكمة جنايات شبرا الخيمة