لم يحسب رئيس الوزراء التركي "رجب طيب أردوغان" المستقبل في تركيا بشكل واقعي، خاصة في ظل تفجر ثورات "الربيع العربي"، في معظم البلدان العربية، ولكنه اعتقد أنه بمنأى عن هذه الثورات، وظن أنه يستطيع أن يحبط أي تظاهرة تقوم ضده، وتخيل أن تركيا لا يوجد بها معارضة، تحاسبه علي ما يتخذه من قرارات، وفي نهاية المطاف صدم بوجود معارضة شرسة. فقد ظهر دور المعارضة الداخلية التركية، بعد فشل السياسة الخارجية ل"أردوغان" خاصة بعدما بدء يتدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى، وكأنه "الزعيم الديمقراطي" الذي لا يخطئ، فخرجت عليه المعارضة لتفاجئه بأنه "رئيس ديكتاتوري" يخطئ. وما زاد المعارضة استفزازا هو قيام "أردوغان" بطريقة فظة بالمشاركة بالحرب على سوريا، والتي هددت بها أمريكا وحلفائها، كما أبدى سعادة بإيواء الإرهابيين وتدريبهم وتسليحهم، وفتح الحدود أمامهم، ما أثر سلبا على المعارضة التركية المنتفضة، والتي أخذت تطالبه بالرحيل والاستقالة، لأنها رأت أن تصرفات "أردوغان" غير الحكيمة سوف تدمر مستقبل تركيا، وتحولها إلي مرتع للإرهابيين. وآخر ما تفتق إليه ذهن "أردوغان" والذي جعل المعارضة التركية تغلي، هو التدخل السافر في الشئون المصرية، حيث أعلن "أردوغان" نفسه داعمًا لجماعة الإخوان المسلمين "المحظورة" في مصر، وساند تظاهرات واعتصامات الإخوان بقوة، وانتقد فض اعتصام ميداني "رابعة العدوية"، و"النهضة"، وما لبث أن انقلب السحر على الساحر، فواجه "أردوغان" عاصفة من الاحتجاجات والاعتصامات والانتقادات داخل بلاده. حيث انتقد زعيم المعارضة الرئيسية بتركيا، ورئيس حزب "الشعب الجمهوري"، أكبر أحزاب المعارضة، "كمال كيليتشدار أوغلو"، السياسات الخارجية التي تنتهجها الحكومة التركية، وقال "أردوغان لم يعد يمتلك دولة جارة يقول لها مرحبا أو يدعوها إلى التعاون، حيث صدر المشاكل مع العراقوسوريا ومصر وإيران، وأشار "كيليجدار" إلى أن "تركيا يجب أن تكون جزءا من الحل، وليس جزءا من المشكلة". وما كان ل"أردوغان" إلا أن يصف المعارضين في بلاده، كما يصفهم إخوانه في مصر، ب"الرعاع" و"المخربين" و"الانقلابيين" و"الجبناء"، كما وصف تحركاتهم ب"المؤامرة الخارجية"، التي يقف وراءها "مندسين" وتحركها "أياد خفية"، ولم يتردد في قمعها بعنف، ولكن مع كل ذلك لم تتوقف حتى اليوم. وبدأت التظاهرات في أنقرة وأجزاء من إسطنبول وإقليم هاتاي جنوب البلاد، في 31 من مايو 2013، بخروج عدد من النشطاء المدافعين عن البيئة، ضد خطط "أردوغان" لإعادة بناء ثكنات على الطراز العثماني مع شقق، ومخازن ومتحف في حديقة "غازى بارك"، الواقعة بجوار ميدان "تقسيم"، التاريخي في اسطنبول. فما كان من "أردوغان" الذي كان يلوم أجهزة الأمن المصرية في تعاملها مع المظاهرات المسلحة للإخوان، إلا أن يعطى الأوامر للأجهزة الأمنية التركية، بقمع التظاهرات وفضها، فقامت الشرطة التركية بقمع التحركات الشعبية، مستخدمة الطلقات المطاطية، وقنابل الغازات المسيلة للدموع، وخراطيم المياه، ورد المحتجون باستخدام الألعاب النارية للتعبير عن تحديهم ورفضهم للإجراءات والحلول الأمنية. واستمرت الاحتجاجات والاعتقالات بشكل متقطع، ولكنها اشتدت وتجددت في شهر سبتمبر 2013، عقب وفاة "آتاكان" الذي كان يبلغ من العمر 20 عامًا، في اشتباكات مع الشرطة في أنطاكية، ليجد "أردوغان" نفسه متساويا مع من كان يلوم عليهم، ويتهمهم بقتل المتظاهرين، ووجد الأتراك أنفسهم أمام نموذج مصري يدعى "خالد سعيد"، ونموذج تونسي يدعى "بوعزيزي". ووسط حالة السخط والغضب التي تشمل كافة أنحاء تركيا، كان يخرج "أردوغان" ليحاول تخفيف حده الموقف تارة، ويؤكد التصميم على موقفه تارة أخري، في مشهد متخبط ومرتعش منه، فهو يريد إسكات المعارضة بأي شكل كان، وفي نفس الوقت يريد تنفيذ مخطط حزب "العدالة والتنمية الإسلامي" الذي ينتمي إليه. فخرج "أردوغان" الذي كان يلجأ أحيانا إلى تصعيد لهجته تجاه المتظاهرين، مؤكداً أنه سيستمر في مشروع بناء المركز الثقافي التاريخي فوق الحديقة، بل سيضيف إليها مسجداً وسط ميدان تقسيم، ما اعتبر تحدياً إضافياً للذين خرجوا للتظاهر، وفي مرة أخري خرج ليقدم تنازلا، ويحاول تهدئه الأجواء المشتعلة في الشارع التركي، ووعد بتعليق خطط إعادة التطوير انتظارا لأحكام القضاء، وتعهد بإجراء استفتاء حول المسألة. وكان آخر موضوع تسبب في إثارة الجدل بين المعارضة وحكومة "أردوغان" هو "السكن الخاص بالجنسين في صفوف الطلبة الأتراك"، قائلا إنه يعارض الحالات التي يقدم فيها طالب وطالبة على تأجير بيت مع بعضهما. ولكن هذا الموقف يثير استغراب كثيرين في تركيا حيث يعد عيش الطالبة والطالبة تحت سقف واحد، أمرا نادرا جدا، بل حتى العائلات غير المتدينة لا تفضل ذلك، فخرج مئات الطلبة إلى شوارع مدينة إسطنبول، للاحتجاج على مشروع قانون "أردوغان" حول منع مساكن الطلاب المختلطة، باسم الدفاع عن الأخلاق. وعلى خلفية ما يحدث في تركيا، كشف استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «سونار للبحوث»، أن "شعبية حزب العدالة والتنمية الحاكم بتركيا تراجعت بنسبة 6%، عن نتائج الانتخابات البرلمانية العامة التي جرت في يوليو 2011″. وذكرت مؤسسة "سونار" في تقييمها لنتائج استطلاع الرأي، أنها مهمة باعتبارها أعدت في الفترة من 8 إلى 16 يوليو الماضي، بعد أحداث متنزه جيزى بميدان تقسيم، مؤكدة أن انخفاض شعبية "أردوغان" لا يعود إلى سياسة الحزب الحاكم، وإنما لرد الفعل المتشدد لأردوغان على المظاهرات التي طالبت بوقف خطة تطوير المنتزه. في المقابل، ارتفعت شعبية حزب الشعب الجمهوري، أكبر الأحزاب المعارضة بالبلاد، من 26% إلى 28% كما ارتفعت شعبية حزب الحركة القومية من 13% إلى 16%.