"إن العنف الديني في مصر وفي غيرها من الدول العربية التي أصابتها جرثومة التطرف الديني لم يعد مجرد ظاهرة. لقد تخطى هذه المرحلة وأصبح بنية ثقافية وعقلية متماسكة تفرز التطرف والإرهاب بصورة دائمة، وهو لم يعد أيضًا مجرد رد فعل لظاهرة أو لأزمة فقط، بل صار يدخل في شبكة متماسكة ومعقدة جدًا من العلاقات في مختلف القطاعات والمؤسسات". بهذه الكلمات الموجزة والصادمة يفتتح الدكتور حسن حماد، أستاذ ورئيس قسم الفلسفة في جامعة الزقازيق كتابه "ذهنية التكفير.. الأصوليات الإسلامية والعنف المقدس" الصادر في طبعة جديدة عن الهيئة العامة المصرية للكتاب، يحاول حماد، من خلال كتابه تفكيك ظاهرة التطرف والإرهاب عن طريق رصد وتحليل جذورها المادية والثقافية والمعرفية وتجلياته السيكولوجية. بنية المقدس يحتوي الكتاب على مقدمة وثلاث فصول وخاتمة، في المقدمة يناقش حماد نشأة وتطور مفهوم المقدس، مشيرًا إلى أن المقدس مفهوم تاريخي عرفته الإنسانية باختلاف حضاراتها وأديانها "يمثل المقدس عنصرًا من عناصر بنية الوعي الإنساني، ولا يمثل فقط مرحلة من مراحل ترقي وتطور هذا الوعي، فالإنسان عبر تاريخه الطويل لم يتوقف عن إنتاج ضروب متنوعة من المقدسات". يوضح حماد أن أزمة المقدس تكمن في البنية المتناقضة ما بين المطلق والنسبي، المتجاوز والواقعي "يعكس المقدس في كافة أشكال تجلياته مفارقة صعبة ومربكة، فهو ينتمي إلى العالم الواقعي والتاريخي بكافة مفرداته وأشكاله ونواقصه، ومع ذلك فإنه يمثل نظامًا ثقافيًا واجتماعيًا يتجاوز حدود الواقعي والنسبي المحدود لينطلق إلى فضاء المتعالي، المعجز، الطاهر، الكامل.. إلخ، بحيث يبدو وكأنه فوق البشري، فوق المساءلة والنقد، يفترض فيه ألا ينتمي لهذا العالم الدنيوي المدنس بخطايا البشر، فهو يعارضه ويناقضه، ومع ذلك فإنه يستمد منه مشروعية وجوده واستمرارية حياته وبقاءه". في هذا السياق يمكننا فهم مدى إشكالية سؤال وسلطة المقدس في الإسلام في ظل وجود تداخلات عديدة بين السياسي والاجتماعي والاقتصادي والديني وتمدد واتساع هذه السلطة بصورة مستمرة "إن سلطة المقدس في الإسلام لم تعد قاصرة على الكتاب والسنة فحسب، ولم تتوقف عند حدود الرسل والصحابة بل امتدت للفقهاء والمفسرين مما جعل ساحة المقدس تتسع لدى المؤمن العادي البسيط لتشمل حتى هؤلاء الذين يمارسون الدجل والشعوذة والخرافة". ويضيف "يمارس المقدس الديني سلطة لا محدودة لا على الحياة السياسية والاجتماعية فقد بل يمتد إلى التفتيش في الضمائر وإلى السيطرة على العقول أو إلغائها تمامًا، ويمتد إلى السيطرة على الجسد والتحكم في كافة الأمور البسيطة والصغيرة والتافهة في الحياة اليومبة للبشر". أسباب التطرف الديني يقسم الكتاب أسباب التطرف الديني وانتشار الإرهاب لثلاث نقاط رئيسية وهى العوامل الذاتية، والموضوعية، والنفسية، مشيرًا إلى أن بنية التطرف الديني التي تغلغلت خلال العقود الماضية في المجتمع المصري أفرزت ذهنية عقلية متطرفة أصبحت تحكم السياق المجتمعي ككل "بنظرة سريعة نستطيع أن نلمس ذلك بصورة صارخة في مساحة الحرية الفكرية والإبداعية التي أخذت تضيق وتنحصر إلى أقصى حد، وأصبح الخوف من تهمة التكفير والخروج على التقاليد سيفًا مسلطًا على رقاب المثقفين، وامتد الأمر إلى المدارس ونظام التعليم فازداد عدد المدارس الدينية واخترق أصحاب الجماعات الدينية المتطرفة المدارس وأصبحوا يبثون أفكارهم في عقول النشء الصغير". ينطلق حماد في أطروحته من مرحلة سبعينيات القرن الماضي كمرحلة فارقة في انتشار وتمدد الفكر المتطرف والإرهاب في مصر والوطن العربي، وهى الفترة التي تولى فيها الحكم الرئيس الراحل أنور السادات، وقد نتج عنها تغيرات ضخمة في بنية المجتمع المصري على كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية والدينية "إن تفشي مناخ التطرف في مصر منذ السبعينيات وحتى الآن يعد مقدمة منطقية وضرورية لنشر الإرهاب، فالإرهاب بصورته الدينية لا يزدهر إلا في أرض مخصبة بالتطرف، ولا ينمو إلا في ثقافة تحرم الفن وتمنع الحرية وتمنع التفكير وتجرم الاجتهاد والإبداع وتحاصر المرأة وتفتش في الضمائر وتقف بالمرصاد لكل ما هو جديد بوصفه بدعة وضلالة". يحدد حماد مجموعة من العوامل الذاتية والموضوعية والنفسية التي يرى أن لها دورا بارزا في انتشار التطرف والإرهاب خلال الثلاثة عقود الماضية في مصر والوطن العربي، وتتتضمن العوامل الذاتية أربعة نقاط، أولًا الأزمة الاقتصادية والخواء السياسي، ثانيًا هيمنة الخطاب الأبوي وغياب الحرية، ثالثًا تدني السياسة التعليمية وتفشي الجهل والخرافة، رابعًا تزايد مشاعر اليأس والخوف والتطلع لمجيء المخلص. بينما تتضمن العوامل الموضوعية ثلاث نقاط، هى سقوط النظام الشيوعي، وغزو أمريكا للعراق، وعولمة الإرهاب "المقصود بالعوامل الموضوعية للتطرف، تلك الأسباب أو العوامل التي تنتمي للعالم الخارجي، وهى عادة تقع خارج السيطرة بالنسبة للدول الفقيرة التي لا تمتلك قوة التأثير فيما يدور حولها من أحداث، إن لم تكن تفتقد حتى قوة التأثير بالنسبة لذاتها ومصيرها". في الفصل الثالث من الكتاب الذي حمل عنوان "التحليل النفسي للعنف المقدس" يقدم حماد مجموعة من السمات السيكولوجية التي يتسم بها الإنسان المتطرّف، ومن أبرزها التعصّب الشديد والنزوع العدواني التدميري والنرجسيّة والتمحور حول الذات والارتباط السّاديّ المازوخيّ بالعالم، والرؤية الأحادية، واليقين المطلق "العقل الأصوليّ هو عقل نكوصيّ ماضويّ، يقدّس الماضي ويتحرّق شوقا للعودة إلى الأرحام المرجعيّة في الفقه واللغة والأفكار..، ومن هنا يتّسم العقل الأصولي بهذا الحنين الجارف لاستعادة الماضي التاريخيّ للأسلاف والعودة إلى العصر الذهبيّ للسّلف الصالح، ومن ثمّ يتمّ نفي الحاضر والمستقبل لحساب هذا الزمن المطهّر من كلّ الخطايا، وتتحوّل منظومات الأفكار الفقهيّة وقيم وممارسات الأسلاف إلى منظومات مقدّسة لا يجوز نقدها أو مراجعتها أو مخالفتها أو حتى المساس بها". فخاخ الخاتمة رغم الجهد البحثي والتعامل بقدر كبير من الموضوعية والتجرد على مدار فصول الكتاب إلا أن الكاتب يخلص لنتيجة تبدو مفارقة لقيمة البحث العلمي الجاد، وفي هذا السياق يقول حماد " بعد هذا العرض الذي تناولنا فيه الجذور المادية والثقافية والمعرفية للعنف الديني وتحلياته السيكولوجية والسلوكية يبقى السؤال الحائر، لماذا يتصدّر التيّار الأصولي الإسلاميّ (كما يُسمّى تيّار الإسلام السياسي) المشهد السياسي المعاصر بهذه الصورة المرعبة؟ ولماذا ينشغل العالم بهذا الضجيج أو الصخب الذي لا ينتهي حول الخطر الإسلاميّ؟ لماذا لا نجد مثيلاً لذلك لدى الديانات الوضعيّة: كالبوذيّة والزرادشتيّة والهندوسيّة؟". ويجيب حماد على هذا السؤال قائلًا "يعود ذلك إلى أن الإسلام وغيره من الأصوليات الإبراهيمية (اليهودية والمسيحية) تستمد قداستها من خلال انتسابها للأصل الإلهي أو إن شئنا الدقة في غيمانها بألوهية كتابها المقدس، وهذا ما يضفي علي ممارساتها السياسية طابعًا جهاديًا وإرهابيًا وتسلطيًا". هذه الرؤية التي يطرحها حماد في خاتمة الكتابة، تغفل تمامًا كم العنف والجرائم الممارس تحت راية البوذية والزرادشتية والهندوسية وغيرها من الجماعات الدينية، ومن هنا يظل السؤال مطروحًا حول حالة العنف والتطرف والهوس الديني المنتشر في العالم ككل.