في بلاد الشرق السعيد البعيد تفتح بوابة السماء الضخمة وتسكب الشمس نورها من خلالها، وتوجد خلف البوابة شجرة دائمة الخضرة.. مكان كله جمال لا تسكنه أمراض ولا شيخوخة، ولا موت، ولا أعمال رديئة، ولا خوف، ولا حزن. وفي هذا البستان يسكن طائر واحد فقط، العنقاء ذو المنقار الطويل المستقيم، والرأس التي تزينها ريشتان ممتدتان إلي الخلف، وعندما تستيقظ العنقاء تبدأ في ترديد أغنية بصوت رائع. وبعد ألف عام، أرادت العنقاء أن تولد ثانية، فتركت موطنها وسعت صوب هذا العالم واتجهت إلي فينيقيا واختارت نخلة شاهقة العلو لها قمة تصل إلي السماء، وبنت لها عشاً. بعد ذلك رفرفت العنقاء بجناحيها وضربت الهواء كثيراً حتي تولدت النار، فاحترقت العنقاء بها حتي صارت رماداً، ومن رمادها خرج مخلوق جديد.. دودة لها لون كاللبن تحولت إلي شرنقة، وخرجت من هذه الشرنقة عنقاء جديدة طارت عائدة إلي موطنها الأصلي، وحملت كل بقايا جسدها القديم إلي مذبح الشمس في هليوبوليس بمصر، ويحيي شعب مصر هذا الطائر العجيب، قبل أن يعود لبلده في الشرق. هكذا سطر هيرودوت المؤرخ المعروف قصة العنقاء الأسطورية.. هيرودوت هو صاحب مقولة «مصر هبة النيل».. ولكنه لم يقل أن مصر علي مدي تاريخها عنقاء.. فهي تكبر ولا تشيخ.. وتسكن فترات طويلة دون أن تتحرك ثم تفرد جناحيها وتقرر أن تحلق.. وتدرك أن الألف سنة قد أتت إلي نهايتها.. وأن الوقت قد حان لأن تولد من جديد.. فلا تنتظر أحداً يحرق ما شاب من ريشها.. بل تشعل بنفسها ناراً تحرق بها شيخوختها لتولد من جديد.. لا يخرجها أحد من شرنقتها، بل تجاهد وحدها لتحل الشرنقة وتخرج شابة صغيرة جديدة جميلة. وتعود مصر العنقاء إلي ما كانت عليه من قبل.. في ضوء الشمس الباهر يراها العالم كله.. تحوطها خضرة دائمة يعيش في رحابها أبناؤها.. بعيدة عن الحزن والشيخوخة.. عن الموت والخوف.. منقارها المستقيم رمز القوة والشموخ يظهر قوياً.. تردد أغنيتها الجميلة بصوت يسمعه العالم كله. أين نحن الآن من تلك المراحل؟ الاحتراق أم الدودة أم الشرنقة أم الخروج من الشرنقة؟ نعم نحن ننظر إلي المستقبل.. إلي الطائر القوي الشاب الجديد.. إلي العنقاء الشابة الجميلة.. ولكن هل انتهت عمليات حرق القديم من الريش أم هناك المزيد منها؟ وهل اتحد الرماد وكون جسم العنقاء الجديد التي تتلون باللون الأبيض رغم خروجها من الرماد الأسود، أم ما زالت تنفض الرماد؟ وهل تكونت الشرنقة الحصينة التي تحمي الوليد الجديد من الاعتداء الخارجي لفترة كافية حتي يتكون هيكل قوي لوليد فتي؟ وكم من الوقت ستستغرقه عملية الولادة الجديد؟ شهوراً أم سنوات؟ ومتي ستخرج العنقاء الجديدة علي العالم وتحلق أمام عيونه ضاربة بجناحيها القويين الهواء؟ لن تخرج مصر العنقاء الجديدة ما لم نسرع جميعنا إلي التوحد ونبذ رماد الفرقة وتقوية عظامنا للخروج من الشرنقة التي ما نزال داخلها.