قبل سنوات ليست ببعيدة كنا نعيش نحن المصريون علي ماتنتجه أيدينا في مصانعنا، ونأكل مما نفلحه في أراضينا، كان المنتج المصري ينافس في جودته ودقة صنعته المنتج الاجنبي، وكانت للصناعة فلسفة وهدف واحد ألا وهو الاعتماد علي الذات وتحقيق الاستقلال الاقتصادي. من منا لم يطالع فخامة الازياء التي ارتداها نخبة المجتمع في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وكان جزءا لابأس به يحاك بأيد مصرية وبتصاميم بالغة الدقة والتفرد، جميعنا نشتاق الي مشاهدة الافلام المصرية القديمة 'الابيض والاسود' لنعود بذاكرتنا الي ايام جميلة خلت ومشاهد رائعة اندثرت بفعل عوامل كثيرة، فإذا نظرنا الي ماكانت ترتديه فنانات ذلك العصر من ملابس انيقة وبسيطة في نفس الوقت، لتحسرنا علي ما نراه الآن من قبح ومبالغة تثير الاشمئزاز. كان هناك مايسمي ب'الترزي'أو 'الخياطة'اللذين كانا يتوليان حياكة البدلات الرسمية والفساتين ببراعة منقطعة النظير، وأذكر هنا معلومة رواها المهندس جمال نجل الرئيس الراحل انور السادات في لقاء مع الاعلامية مني الشاذلي، من أن والده الذي كان الكل يعتقد انه يرتدي ملابس من ماركات عالمية، كان يعتمد علي ترزي يدعي 'سويلم' في حياكة بدلاته الرسمية وحتي البيجامات والقمصان، والدليل علي ذلك أن تلك الملابس معروضة بمتحفه في منزل ميت أبو الكوم وممهورة بالعلامة الخاصة بالترزي. كان الترزي والخياطة في ذلك الزمان يعملان ولهما مساعدون يعينونهم علي تلبية الاحتياجات المتزايدة من الزبائن، لاسيما في المناسبات والافراح والاعياد، خاصة أن كثيرا من الناس كانت لهم تقاليدهم في ارتداء الملابس بما يناسب بيئتهم الاجتماعية، فأهل الحضر يختلفون عن أهل الريف والصعيد، و'الافندي' يختلف عن 'ابن البلد'، وكانت هناك بيوت مفتوحة من ذلك النشاط. كنا نعتمد، حتي سنوات قليلة ماضية، في شراء الملابس الجاهزة علي محلات مثل صيدناوي وبنزايون وشيكوريل وغيرهما من محلات القطاع العام والتي كانت تجمع في حوانيتها كل مايلزم الأسرة من ملابس ومفروشات وادوات منزلية وخلافه، كانت البيجامة 'الكستور' بألوانها الزاهية الجميلة هي مانتدفأ به من برد الشتاء وكانت مثيلتها المصنوعة من أقمشة 'اللينوه' القطنية هي ما يلطف أجسادنا من حرارة الصيف. الآن جرت في النهر مياه كثيرة وتغيرت الاحوال وتراجعت الصناعة المصرية أمام منافسة المنتج المستورد، ولم يعد هناك ترزي أو خياطة أو حتي قطاع عام، وفتح الباب علي مصراعيه أمام المنتج المستورد بأنواعه الرديئة، حتي انك أصبحت في كثير من الاحيان تبحث عن منتج محلي بعينه، فلاتجده وان وجدته ستجد اسعاره مبالغا فيها، وخير دليل علي ذلك صناعة الجلود التي توارت من السوق تاركة الساحة أمام الغزو الصيني. 'إشتري المصري'.. شعار يجب أن نظل حريصين عليه في ظل تراجع المنتج المحلي وماترتب عليه من كساد في سوق العمل، وهو الشعار الذي اتخذته وزارة التموين عنوانا لمعرضها المقام في أرض المعارض في الفترة من 27نوفمبر وحتي 7ديسمبر، اللافت للنظر في هذا المعرض انه ضم شركات القطاع العام التي كنا نسينا أمرها من سنوات، فإذا بها حاضرة بمنتجات لاأدري لماذا لايتم التوسع فيها لتغطية السوق المحلي خاصة أن أسعارها وجودتها تفوق كثيرا مايعرضه القطاع الخاص بأسعار ترهق كاهل المواطنين. شركات القطاع العام كانت فيما مضي تراعي البعد الاجتماعي في تسعير منتجاتها، ومازالت حتي الان تولي أهمية لذلك، منتجات الملابس والصناعات الغذائية مصنوعة من خامات مصرية خالصة، وهي كما قال لي الدكتور ياسر عباس نائب رئيس جهاز تنمية التجارة بوزارة التموين محاولة من الوزارة لمحاكاة القطاع الخاص في أسلوب العرض والتسويق، وهو ماتأكد نجاحه بالفعل في المعرض الذي أقيم في شهر رمضان الماضي، وحقق نسبة مشتريات عالية، الامر الذي جاء اتساقا مع رؤية الوزير الدكتور خالد حنفي بالنزول بقواعد السوق كلاعب رئيسي ينافس المنتجات الاخري بدلا من وضع الرقابة علي الاسواق. وخلال تجولي في المعرض لاحظت اهتماما متزايدا من القائمين علي تسويق المنتجات بالزائرين والعمل علي تلبية مستلزماتهم الشرائية قدر المستطاع، كما أن الاسعار الموجودة خاصة في السلع الغذائية كانت جاذبة للغاية لجمهور المتسوقين، وهو ماأكد عليه المهندس محمد الدمرداش رئيس مجلس إدارة شركة تسويق الارز بوزارة التموين، والذي عرضت شركته منتجات الارز والمكرونة والسكر بأسعار تنافسية. خلاصة القول هو أن دعم المنتج المحلي خاصة في القطاع العام من شأنه ضبط إيقاع السوق حتي لايترك المواطن فريسة جشع واستغلال التجار الذين لايعترفون الا بلغة المكسب والخسارة.. وما دون ذلك فليذهب أدراج الرياح.