من المؤكد أن التضييق على الحريات لن ينتهي، ومن يعتقد أننا نعيش عهد حرية التعبير والديمقراطية فإنه يغالط نفسه، والقليل من مساحة حرية الصحافة والإعلام التي تظهر من حين لآخر، فهي مسموحة طالما لا تهدد بقاء الأباطرة أو تنزعهم من جناتهم الخضراء. لقد حزنت كثيرا لما حدث لجريدة "الدستور" ولرئيس تحريرها إبراهيم عيسى.. فرياح التغيير والشكل الجديد الذي كانت الجريدة تعلن عنه قبل 27 سبتمبر أتى على الأخضر واليابس وكانت المفاجأة على الأقل بالنسبة للقراء هي إقالة إبراهيم عيسى عن رئاسة التحرير.. ولكن العالم ببواطن الأمور والذين يدورون في فلك الصحافة ربما أدركوا ذلك يوم انتقلت ملكية الجريدة لأطراف جديدة، فكان لابد من التغيير وإنهاض تجربة صحفية رائدة راودت الكثير من أبناء المهنة وفتحت شهيتهم للكتابة على صفحات الجريدة التي تحتوي عقلية القارئ إلى حد معقول. كما أنني لست مع الذين يقولون إن "الدستور" كجريدة شيء وإبراهيم عيسى شيء آخر، بل إنهما واحد، لأنه مؤسسها وواضع خطها الإعلامي والتحريري والسياسي، ورغم صفحاتها القليلة فقد كانت مضامينها هادفة تنتصر للقارئ العادي، أو لنقل المواطن المطحون بين لقمة العيش المرة وإنسانيته المهدورة بين الزحام والتلوث البيئي وغياب العدالة الاجتماعية، فكان يجد في مقالات إبراهيم عيسى متنفسا له، فمواضيعها تمسّه كهدف، وتتميز كذلك بسلاسة لغوية بسيطة مختصرة تؤدي المعنى والغرض بدون تطويل وأسلوب صحفي جديد فيه كثير من المهنية والحرفية، فإبراهيم عيسى حالة صحفية قلما توجد في الواقع الصحفي العربي الراهن الذي يفتقد المهنية الصحفية وقلما حرا، وعلى هذا الأساس فإن تنحيته إنما هي إجهاض للصحافة الحرة التي تؤمن بالديمقراطية وبالعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص بين أفراد الوطن الواحد وتحارب كل أنواع الفساد الذي أنهك الأوطان والعباد. إننا ندرك أن الواقع الإعلامي برمته (صحافة أو إعلام مرئي) أصبح مقلقا خاصة بعد دخول أصحاب المال والنفوذ في المشهد الإعلامي وأصبحت الكلمة لهم بحكم امتلاكهم للصحف وللقنوات التليفزيونية، ودخل غرباء على المهنة واستبعد صحفيون عن مجالهم إما بالإقصاء والإهمال للبعض أو بالإغراء والأموال لمواكبة أوضاع ومصالح الملاك للبعض الآخر، ونتج عن هذه الأوضاع المتردية كفاءات صحفية شابة مهمشة ومغيبة ولا صوت لها.. لكن على الصحفيين الذين يؤمنون بحرية الصحافة ويحبون مهنتهم أن يتصدوا لكل أنواع التهميش ويدافعوا على أقلامهم ويتضامنوا مع صحفيي "الدستور" وعليهم كذلك أن يترفعوا، فالصحافة ليست لقمة عيش فقط بل إنها مهنة وسلطة، وما يميزهم عن باقي الناس أنهم مدركون لمشكلات وهموم أوطانهم وعلى عاتقهم كذلك تقع مسئولية التعبير عن هذه المشكلات وتوجيه الرأي العام والتأثير فيه. فالظاهر في قضية "الدستور" مشاكل مالية وحسابات إدارية بين الملاك وإبراهيم عيسى من ناحية وبين الإدارة الجديدة وباقي الصحفيين.. وهذا ما يحاول الملاك ومن له مصلحة بشكل أو بآخر إقناع الناس به، ولكن الباطن أن جريدة "الدستور" اختطفت لأنها أصبحت تزعج، فكان لابد من عملية "كوماندوز" تنقلها من بر إلى بر أو لنقل من خط معين إلى آخر مغاير تماما. والآن أصبح الصحفيون مطالبين بموقف حازم يضعهم أمام مسئولياتهم الاجتماعية والسياسية أو التكاتف من أجل إرساء قواعد جديدة للمهنة ولحرية الصحافة، وتفعيل قانون الإعلام والصحافة والمشاركة فيه وتجاوز خلافاتهم السياسية والأيديولوجية والمصالح الضيقة، فالولاء للمهنة فقط والكرة أصبحت في ملعب نقابتهم ومجلسها لاتخاذ مواقف تعزز هذا الولاء وتنتصر للمهنة. وحان وقت تصحيح اللغط الموجود في إدراك أصحاب المهنة وعدم استيعاب كثير منهم لدور الصحافة القومية التي هي أساسا ملكية عمومية لا يصح أن تخدم الحزب الحاكم فقط، وإنما من المفترض أن تقدم خدمة عامة لكل أفراد المجتمع وهيئاته من خلال تمكين الصحفي الوصول إلى مصادر الخبر والمعلومة من منبعها وحمايته.. كما أدعو الصحفيين إلى إنشاء جرائد وصحف مستقلة تجمعهم من خلال شركات مساهمة على غرار ما هو موجود في بعض البلدان يساهمون من خلالها في خلق مناخ صحفي صحي، وصحافة حرة مستقلة لا تهدف إلى الربح المادي فقط، وإنما تحقق كذلك خدمة هادفة للمتلقي وتساهم في تنمية الأفراد والمجتمع وتثبت أنها بحق سلطة رابعة ومؤثرة. وفاء عمار عيواز هي صحفية عربية من الجزائر