"الحرب الأهلية؟ ماذا يعني هذا؟ هل هناك أي حرب أجنبية؟ أليست هي كل حرب يقتل فيها الرجال بعضهم البعض، والإخوة بعضهم البعض؟".. الكاتب الفرنسي فيكتور هيجو كلنا أو لنقل الأغلبية العظمى من المصريين فضلا عن جمع غفير من المواطنين الآخرين من جنسيات مختلفة حول العالم، تابعوا في ترقّب خطاب الرئيس مرسي الأخير. البعض كان يعوّل بشدّة قبل إذاعته أن يحاول الرئيس فيه أن يلمّ شمل الأمة التي تفرّقت بأهلها السبل، وبات الأمر ينذر بحرب أهلية بعدما استشرى العنف بين أبنائها، ما بين مؤيّد للرئيس ومعارض له، فالكلّ يرى أنه على صواب والآخر حتما على ضلال، الكلّ يرى أن الوسيلة الوحيدة هي إقصاء الآخر ويفضّل بقتله لإبعاده تماما من على الساحة السياسية، عوضا عن المسكّنات التي لا تجدي نفعا مثل الازدراء منه ومهاجمته فكريا، لأنه حتما ما سيستغل أقرب فرصة للقضاء عليك، فالأفضل إذن البدء أولا بتصفيته جسديا! في حقيقة الأمر، يجب علينا أن نعود بالزمان إلى الوراء قليلا، للحكم على الأمور بطريقة أوسع وأشمل، تحديدا بعد سقوط الرئيس السابق مبارك وتولّي المجلس العسكري شئون البلاد، مع وضع جماعة الإخوان المسلمين في بؤرة اهتمامنا. ليس سرا القول إن جماعة الإخوان المسلمين تلك التي تأسّست عام 1928 على يد حسن البنا، هي من الجماعات الأكثر تنظيما في البلاد، لذا كان بديهيا أن تستحوذ على نسبة كبيرة من المقاعد النيابية، لا سيما وأنهم نجحوا من قبل في الاستحواذ على نسبة مميّزة في انتخابات مجلس الشعب عام 2005، وهي نسبة خمس المقاعد وقتذاك، لتصبح أقوى قوة معارضة في البرلمان، فما بالنا إذا تهيّأت الأجواء أكثر وأكثر في انتخابات عام 2011؟ بطبيعة الحال، اكتسح الإخوان قوائم مجلسي الشعب والشورى في أول انتخابات برلمانية بعد ثورة 25 يناير. وبعد ذلك، ازدادت مطامع جماعة الإخوان المسلمين لترشّح أحد رموزها على رئاسة الجمهورية، رغم أنها كرّرت مرارا وتكرارا أنها لا تسعى إلى الاستحواذ على المشهد السياسي المصري برمته، ولن تخوض غمار الانتخابات الرئاسية! وبعد أن فاز مرشّح الجماعة د. محمد مرسي برئاسة الجمهورية، رأيت مع من رأى أن جماعة الإخوان لديها فرصة تاريخية هذه المرة إما لإرساء قواعدها في الحكم لعقود قادمة من خلال لمّ شمل المجتمع المصري والانفتاح على التيارات والفصائل السياسية الأخرى، ناهيك بحلّ المشكلات المزمنة التي يئنّ بها جسد الأمة، وإما التواري والانحسار للأبد بعدما يفقدون ثقة الشارع المصري، لأنهم لم يستطيعوا التعامل مع القضايا الداخلية الملّحة أو الخارجية التي تؤثّر على ثقل مصر بين دول الجوار والعالم الخارجي ككل. وإذا ما فشلت جماعة الإخوان المسلمين وذراعها السياسية حزب الحرية والعدالة في ذلك الامتحان العصيب، فقد يشبه مصيرهم مصير حزب الوفد الليبرالي الذي كان في فترة العشرينيات والثلاثينيات من القرن المنصرم، الحزب الأهم والأكثر تأثيرا في الحياة السياسية المصرية قبل أن تحلّه ثورة 1952 ويعاد تأسيسه عام 1978 تحت اسم حزب الوفد الجديد، ولكنه بات حزبا لا يؤثّر على المشهد السياسي المصري، ويصارع من أجل البقاء في ظلّ تواري وانحسار كل أحزاب المعارضة إبان حكم الرئيسين أنور السادات وحسني مبارك. راهن الكثيرون وأنا منهم على أن جماعة الإخوان المسلمين ستنتهج المسار الأول، أي سيقدّر لها البقاء لعقود طويلة مقبلة، مستندين على خبرة جماعة الإخوان المسلمين في التعايش من قبل مع الأنماط السياسية المختلفة التي هيمنت على المشهد السياسي المصري لثمانين عاما. ولكننا، على ما يبدو، كنا جميعا مخطئين، حيث ارتكب مسئولي الجماعة وقيادتها الأخطاء تلو الأخرى أثناء حكم البلاد، وما زاد الطين بلة أن الجماعة شرعت في إقصاء معارضيها، تماما مثلما كان يفعل برموزها وأعضائها من قبل، في محاولتهم ل"أخونة" الدولة المصرية، أو على أقل تقدير حاولوا الهيمنة على العديد من المناصب المهمة في مفصل الدولة، مستفيدين في ذلك من معارضة هشّة لا حول لها ولا قوة وأغلبها يحارب بعضها البعض علانية! ولكن، عندما توحّدت المعارضة المشتّتة، وعندما ازداد السخط العام بين جموع المواطنين بسبب أزمات تتفاقم بإطراد في ظلّ حكومة عاجزة ورئيس كل ما يجيده إلقاء التهم على الآخرين دون التوصّل إلى حلول ناجعة لتلك الأزمات، وفوق هذا وذاك، ازدياد السخط العام بين جموع القضاة وقيادات الجيش والشرطة، هبّ الجميع بأعداد غفيرة غير مسبوقة في تظاهرات حاشدة بمختلف ربوع البلاد ضد الجماعة ورئيسها. عندئذ لاح في الأفق مسار حزب الوفد جليا لدى جماعة الإخوان المسلمين وقياداتها، فلا مجال لهم للتصدّي لكل هؤلاء مجتمعين، إذن التواري والانزواء قد يكون حلا ذكيا في مثل هذه الأمور من خلال الرضى بجزء محدود من الكعكة السياسية، فهذا أفضل في جميع الأحوال من الخروج صفر اليدين من المشهد السياسي المصري برمته! مجددا.. تفشل جماعة الإخوان المسلمين في امتحان جديد وضعته الأقدار في طريقها، حيث خرج الرئيس مرسي وقيادات الجماعة من قبله، يردّدون دون انقطاع أحاديث عن الشرعية والدماء التي يجب أن تبذل في سبيلها، دون حلول ولو جزئية أو مؤقّتة للمشكلة القائمة! وأيضا أثناء هذه التصريحات النارية والبيانات الرنّانة، سمعنا ورأينا حمّامات الدم التي أريقت في العديد من المحافظات، لا سيما في محافظة القاهرة، ردّا طبيعيا لحالة الاحتقان التي وصلّ إليها أبناء هذا الشعب المنقسم على نفسه. عندئذ.. لاح سيناريو آخر في الأفق، وهو سيناريو الحزب الوطني الديمقراطي الذي أسّسه الرئيس الراحل أنور السادات عام 1978 ليصبح على مر السنين الحزب الأوحد المتحكّم في أمور البلاد السياسية قبل اندلاع شرارة ثورة 25 يناير، أطاحت الثورة المصرية بكل رموزه وجرى اعتقالهم بالجملة، بل إن رئيس الحزب نفسه، الرئيس المصري حسني مبارك، بات خلف الأسوار متّهما بقتل المتظاهرين السلميين، ناهيك بحرق مقار الحزب أثناء الثورة وتأميم أصوله وممتلكاته لتصبح ملكا للدولة وحلّه كليا في 16 إبريل من عام 2011. عقب خطاب الرئيس مرسي الأخير، أجد أن سيناريو الحزب الوطني الديمقراطي ليس ببعيد عن جماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة، فجماعة الإخوان المسلمين على الأرجح لن تقوم لها قائمة مرة أخرى حيث وصمت فترة حكمها، وإلى الأبد، باقترانها بالدماء وجرّ المصريين إلى حرب أهلية. وإذا ما فرضنا جدلا على سبيل المثال إن الرئيس مرسي قد ينجو من بطش جموع المصريين بعد هذه الأزمة الراهنة، كيف له أن يتعايش مع أفراد شرطة وجيش سيتحيّنون أي فرصة لإحراجه محليا ودوليا بعد الفجوة العميقة بين مؤسسة الرئاسة وبينهم؟ ختاما.. يبدو أن الأسوأ لم يأتِ بعد، وسيكون خطاب الرئيس مرسي الأخير لسنوات طويلة قادمة، لحظة فارقة في حياة التيار السياسي الإسلامي في مصر، باعتباره أكثر المتضّررين من الأزمة الراهنة، أما بالنسبة إلى الأخوة المتناحرين والمنقسمين على أنفسهم من أبناء الوطن، فأحب أن أذكرهم بأنهم جميعا بشر، سواء كانوا مؤيّدين أو معارضين، قبل أن يكونوا مصريين وأخوة وبينهم صلات قرابة ونسب. وإذا كان البعض معارض لفكر البعض الآخر أو لموقفه، فإن هذا ليس معناه الإقصاء سواء كان بالقتل أو بالازدراء، ولنتذكّر أن سياسات سلمية غير عنيفة هي من نجحت في مقاومة احتلال شأن الاحتلال البريطاني للهند على يد المهاتما غاندي، بل ونيل الهند لحريتها واستقلالها عبر تلك السياسة التي تظهر الطرف القوي ضعيفا أمام العالم وأمام نفسه!