عجباً.. كل منابرنا الجمعة الماضية تلهج بالوحدة الوطنية، حسنا، كل أئمتنا الجمعة الماضية يلهجون بالمحبة وأخوة الوطن، هكذا بين عشيّة وضحاها، طرفة عين، الدنيا تغيرت، العقول تفتحت، المنابر نوّرت، غادرها المتطرفون، المتعصبون، شيوخ النار، غادروا مساجد كانوا قد استولوا عليها، فجأة صارت المساجد بردا وسلاما. جميل.. الجمعة الماضية تم استدعاء الاحتياطي الاستراتيجي من مخازن الوحدة الوطنية، تم تكليف الاحتياطي الوطني من أئمة الأوقاف بالحسنى وزيادة، يا رب أدمها علينا نعمة كل يوم جمعة واحفظها من الزوال. يوم الجمعة الماضي ابيضّت وجوه واسودّت وجوه وشاهت وجوه، يوم الجمعة ارتقت المنابر وجوهٌ بيضٌ غرّ محجلون، يبغون فضلا من الله ونعمة، سباقون إلى الخير، يأمرون بالمعروف إلى أخوة الوطن، وينهون عن المنكر الذي يؤذيهم في دينهم، العزف الجماعي على أوتار الوحدة الوطنية وحقوق أخوة الوطن كانت سيمفونية هزّت الوجدان، فرح بها المؤمنون بالوحدة الوطنية. جمعة الوحدة الوطنية كانت باهرة، ملهمة، مبشّرة، جمعة وعدّت، يا خوف فؤادي من غدٍ! طيب والجمعة الجاية، والجمعة بعد الجاية، وبعد بعد الجاية؟ أخشى أن تكون الجمعة الماضية كما يسمّون الجمعة الأخيرة من رمضان الكريم "الجمعة اليتيمة"، وبعدها تعود ريما اللئيمة إلى عادتها الذميمة، وتعود المنابر إلى سيرتها الأولى، تعصبا وتطرفا وتحريضا، يركبها شيوخ النار وعذاب القبر، يؤمّها "المكفراتية"، يكفّرون ولا يستحون من وجه الله الكريم، أخشى أن يتنكب أئمة الدولة المدنية وخطباء الوحدة الوطنية الطريق، ويعودوا إلى خطب ما أنزل الله بها من سلطان، خطب التحريم الوطني، خطب الكراهية الدينية، خطب التفتيش في العقائد وتسفيهها وتكفير معتقديها، معاذ الله. لطيف.. جمعة الوحدة الوطنية لم يشذّ عنها أحد من الأئمة، لماذا يشذّون في بقية الجمع؟ لماذا يمشون في طريق الهلاك الوطني؟ لماذا لا يرحمون هذا الوطن الطيب وهذا الشعب المتسامح؟ لماذا يتقهقرون، وينكصون على أعقابهم، وقد خطوا الخطوة الأولى، وقد خطبوا الخطبة الأولى؟ حديث الوحدة الوطنية له حلاوة.. وإن عليه لطلاوة، لماذا يتنكب البعض منهم الطريق؟ لماذا يشرخ بعيدا عما أوصانا به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ الجمعة الوطنية اليتيمة -تشبيها لا تقريرا- تهدي للتي هي أقوَم، يجب ألا تكون يتيمة، لا بد أن تكون نبراسا هاديا، لا يُقبل على المنابر بعد الجمعة لغو، لا يقبل الوطن اللغو من القول، يقبل الطيب النافع، لا يجب ترك المنابر "سداح مداح" لكل من في نفسه مرض، لا يصعدها معتد أثيم، لا يرتقيها إلا العليم الخبير بشئون الدين والدنيا. الخطابة بالتعليمات لا تستمرّ طويلا، الخطابة بالتوجيهات لا تدوم، خطابة الأزمة تنتهي بزوال الأزمة، خطابة الفاجعة تفجعنا، ما دام في الإمكان أفضل مما كان، ما دام في الإمكان تحويل المنابر إلى منارات هاديات تهدي الحيارى في البرية الوطنية، وتطمْئن القلوب الواجفة من خطر الفتنة الطائفية، ما دام في الإمكان أن تتحول المنابر والمساجد إلى بيوت خير ورحمة، إنما يعمر مساجد الله، ما دام ممكنا فلماذا يصبح غير ممكن، لماذا السير في الاتجاه العكسي والطريق إلى الجنة مفروش بالدعوات الصالحات؟ الخطابة للترضية لا تسمن ولا تغني من جوع إلى الوحدة الوطنية، الخطابة بالتقية لا تقيم أود وطن يبحث عن الأمن والأمان، الخطابة بالأفواه وبزعيق الحناجر لا توفّر راحة قلبية لمن فزع وجزع، الخطابة القلبية، من القلب، تذهب سريعا إلى القلب، الخطابة بالتمرير -تمرير الحادث- أقرب للضحك على الذقون، الهزل في مقام جد عبث باحتياج الوطن لخطاب ديني عاقل مستنير. الخطابة المستنيرة تقابلها عظات مستنيرة، المطلوب من الأئمة والمشايخ والوعاظ، مطلوب نفسه من القساوسة والأساقفة والرهبان، النور في المساجد، نور في الكنائس، المآذن الطيبة تقابلها منارات هادية، ما يُقال في صحن المسجد مطلوب مثله في مذبح الكنيسة، المسجد لن يصلح الحال وحده، المسجد والكنيسة معا، وكما أن التحريض جرى في المسجد والكنيسة، فيجب أن يتم إنتاج السماحة في المسجد والكنيسة، الحصاد المرّ مصانع إنتاجه كان المسجد وكانت الكنيسة، لا نستثني منهما أحدا. نُشِر بالمصري اليوم بتاريخ 10/ 1/ 2011