في مثل هذا اليوم توفي الشاعر المصري الكبير بيرم التونسي في 5 يناير 1961؛ وهكذا أخذنا على عاتقنا في ذكرى وفاته أن نذكّر قراءنا به.. بيرم التونسي مبدع مصري خالص من أصل تونسي، كانت حياته للناس وبين الناس، أحبهم فأحبوه.. أبدع في نظمه للزجل وللشعر بلغتهم البسيطة لغة العامة؛ متفاعلاً معهم ومن أجلهم، فتفاعلوا معه ليس في مصر فحسب وإنما في العالم العربي الكبير، شارك في الكتابة للسينما والمسرح بإحساسه الصادق، وتغنّى بأشعاره كبار المطربين. يعدّ بيرم من أشهر شعراء العامية المصرية؛ لدرجة أن أمير الشعراء أحمد شوقي قال عنه: "أخشى على الفصحى من بيرم"؛ فقد كان بيرم نابغة في شعر العامية، وكانت كل أشعاره كأنها طلقات رصاص على الفساد السياسي والاجتماعي في مصر. ولمن لا يعرف من قرائنا الأعزاء فإن شعار موقع "بص وطل" جاء من مقولة شاعرنا الساخر الكبير: "يا مصري وانت اللي هاممني من دون الكل.. نمت والعالم فايق قوم بص وطل"، التي تلخّص رسالة الموقع وفلسفته؛ حيث انتقيناه من بين أبيات قصيدة بعنوان "الشرق": يا مصري وانت اللي هاممني من دون الكل هزيل ويحسبك الجاهل عيان بالسل من دي الكيوف اللي تصبر على كتر الذل ونمت والعالم فايق قوم بص وطل ولد محمود بيرم التونسي في الإسكندرية في 3 مارس 1893، وسمي التونسي لأن جده لأبيه كان تونسياً قدم إلى مصر سنة 1833، والتصق به لقب التونسي رغم أنه مصري صميم. كان ذكياً يحب المطالعة تساعده على ذلك ذاكرة قوية، بدأت شهرته عندما كتب قصيدته "المجلس البلدي"، التي اشتهرت باسم "بائع الفجل"، والتي ينتقد فيها المجلس البلدي في الإسكندرية -آنذاك- بعد أن قام بفرض الضرائب الباهظة، وأثقل كاهل السكان بحجة النهوض بالعمران، وبعد هذه القصيدة انفتحت أمامه أبواب الفن فانطلق في طريقها ودخلها من أوسع الأبواب، ويقول فيها: لا تنكروا ما رأيتم من ضنى جسدي ولا فؤادي الذي أمسكته بيدي بمحنتي لم يُصَب في الناس من أحدِ قد أوقع القلب في الأشجان والكمدِ هوي حبيبٍ يُسَمى المجلس البلدي حتى يقول: هو الذي لم يدع في الأرض شاردةً كلا ولا رطبة فيها وجامدةً إلا وكانت على التحصيل شاهدةً يا بائع الفجل بالمليم واحدةً كم للعيال وكم للمجلس البلدي أصدر مجلة "المسلة" في عام 1919 فأغلقت، وبعد إغلاقها أصدر مجلة "الخازوق" ولم يكن حظها بأحسن من حظ "المسلة"، نفي إلى تونس؛ بسبب مقالة هاجم فيها زوج الأميرة فوقية ابنة الملك فؤاد؛ ولكنه لم يطق العيش في تونس؛ لما شهده من قمع من المستعمر الفرنسي، فسافر إلى فرنسا ليعمل حمّالاً في ميناء مارسيليا لمدة سنتين، وبعدها استطاع أن يزوّر جواز سفر له ليعود به إلى مصر، فيعود إلى أزجاله النارية التي ينتقد فيها السلطة والاستعمار آنذاك. ثم يلقى عليه القبض مرة أخرى لتنفيه السلطات إلى فرنسا، ويعمل هناك في شركة للصناعات الكيماوية، ولكنه يُفصل من عمله؛ بسبب مرض أصابه، فيعيش حياة ضنكاً ويواجه أياماً قاسية ملؤها الجوع والتشرد، ورغم قسوة ظروف الحياة على بيرم إلا أنه استمر في كتابة أزجاله وهو بعيد عن أرض وطنه، فقد كان يشعر بحال شعبه ومعاناته وفقره المدقع وها هو يشكو من حقيقة أن أرزاق ومصائر العباد أصبحت في أيدي اللئام في قصيدة بعنوان "الغش والغلا": الأكل والشرب في إيد اللومنجية والطماعين اللي غلوا الملح والميه والغشاشين اللي فاقوا على الحرامية الشاي بالمفتشر مخلوط ملوخية والبن فيه الشعير تسعين في المِيه والميه والعيش برمله وطينه يا ملوخيه واللحم معروض بدون أختام رسمية والميه هيه اللبن ولا اللبن هيه! أفاعي متسيّبة من غير رِفاعيه ودنيا مترتبه ترتيب فلاتيه وبعد تشرّد طويل يعود بيرم إلى مصر حين تقف باخرة كانت تقلّه بميناء بورسعيد، فيقف بيرم باكياً حزيناً وهو يرى مدينة بورسعيد من بعيد، فيصادف أحد الركّاب ليحكي له قصته فيعرض هذا الشخص على بيرم النزول في مدينة بورسعيد، وبالفعل يعود لأحضان مصر. بعدها أسرع بيرم لملاقاة أهله وأسرته، ثم يقدم التماساً إلى القصر بواسطة أحدهم فيعفى عنه وذلك بعد أن تربع الملك فاروق على عرش مصر، فعمل كاتباً في أخبار اليوم، وبعدها عمل في جريدة المصري، ثم في جريدة الجمهورية، وقد قدّم بيرم أعمالاً أدبية مشهورة، وقد كان أغلبها أعمالاً إذاعية منها سيرة الظاهر بيبرس وعزيزة ويونس، وفي سنة 1960 يمنحه الرئيس جمال عبد الناصر جائزة الدولة التقديرية لمجهوداته في عالم الأدب، ثم يحصل على الجنسية المصرية. ظل بيرم إلى آخر لحظة في حياته من حملة الأقلام الحرة الجريئة، وأصحاب الكلمات الحرة المضيئة.. وساعد غناء السيدة أم كلثوم لكلماته على انتشاره في جميع الأقطار العربية؛ وذلك عندما غنّت له قصيدة "القلب يعشق كل جميل" التي قال فيها: القلب يعشق كل جميل ... وياما شفتي جمال يا عين واللي صدق في الحب قليل ... وإن دام يدوم يوم ولا يومين واللي هويته اليوم ... دايم وصاله دوم لا يعاتب اللي يتوب ... ولا في طبعه اللوم واحد مافيش غيره ... ملا الوجود نوره دعاني لبيته ... لحد باب بيته ولما تجلالي ... بالدمع ناجيته مثلت أشعاره ما يشبه النبوءة في كثير من الأحيان، فتراه هنا يتحدث عن مهازل الانتخابات، وفرض السطوة والسيطرة بالصوت العالي، وبخمسين قرش ليس أكثر: خمسين قرش ترفع ميكرفونك لوش الفجر, وزيادة شوية وخمسين قرش توضع نص درهم في جيب خصمك وترميه في بليّة وخمسين قرش تنهب أجزخانة من المستشفيات القاهرية وخمسين قرش يعفيك المفتّش من الغرامات ويشطب لك قضية وخمسين قرش تتبدّل محاضر بتهمة عليك وتتحوّل عليّ! وخمسين قرش شيخ حارتك يخلِّي ولادك يهربوا م العسكرية وخمسين قرش محفظتك تعود لك من النشال بالواسطة القوية وخمسين قرش أكتب لك مقالة بأنك من رجال العبقرية! وفي موقف آخر يقول فاضحا الحكومة: أربع عساكر جبابرة يفتحوا برلين ساحبين بتاعة حلاوة جاية من شربين شايلة على كتفها عيّل عينيه وارمين والصاج على مخها يرقص شمال ويمين إيه الحكاية يا بيه؟ قال خالفت الجوانين اشمعنى مليون حرامي في البلد سارحين يمزّعوا في الجيوب ويكسّروا الدكاكين أسأل وزير الشئون ولا أكلم مين؟! ويعود فيقول: في مصر أربع تلاف محامي أشوف عددهم أقول يا حامي أتاري فيه مليونين حرامي وكل واحد عليه قضية حتى المجاري لم يفت بيرم أن يتحدث عنها: حارتنا زينة المجاري في وسطها نهر جاري بفضل مجلس بلدنا وفضل فيض المجاري وعن المحسوبية في قصيدة "الواسطة": الواسطة لسة شغالة يا رجالة والحالة هياها الحالة في كل مكان وعن "الاختلاسات": يا واد يا افندي الديوان معفن من كتر مابتحشي فيه وتدفن هيظبطوك عن قريب مكفّن بسرقتك والحنوط عليه وعن الغناء الهابط في قصيدة "يا هل المغنا دماغنا وجعنا": ياهْل المغنى دماغنا وجعنا دقيقة سكوت لله دا احنا شبعنا كلام ما له معنى يا ليل ويا عين ويا آه وعن "أطفال الشوارع": في كل روضة الطفولة خدّها ينباس وانتم خدودكم على سفح التراب تنداس وهكذا لم يترك بيرم التونسي شاردة ولا واردة إلا تعرض لها بكلماته الساخرة التي تطرب لها الأسماع وتبتسم لها الشفاة وتمس القلوب؛ لأنها نابعة من قلب مصري حي فتصل إلى قلب كل مصري..