عندي أوراق وأقلام أشكال وألوان.. وأعرف القراءة والكتابة لكن ليس معني هذا أن أكون طه حسين أو نجيب محفوظ أو يحيي حقي أو صلاح جاهين أو بيرم التونسي!! كل هؤلاء يكتبون ببساطة منقطعة النظير ومن فرط البساطة والسلاسة التي يكتبون بها تتصور في لحظة طيش أو وهم أنك لست أقل موهبة منهم وأنك تستطيع أن تكتب أحسن وأفضل وربما أعمق منهم!! إن عظمة وعبقرية أشعار «بيرم التونسي» وبساطتها وصدقها في كلماتها ومفرداتها وتشبيهاتها وصورها الشعرية تتصور للحظة إنها شيء يمكن الكتابة مثله ولكن هذا هو المستحيل بعينه وعلي رأي المثل القائل: المية تكدب الغطاس!! وهل يمكنك قول مثل هذا مثلا: أهل المعارف يقولوا الناس بالمقامات لا بالملابس ولا بالأكل والركوبات كام من غني بالأدب لابس هدوم شحات ومن غجر في البلد دي واسمهم بهوات! وتأملوا معي هذه الأبيات القليلة المليئة بالموعظة والحكمة ودروس العمر كله حيث يقول عم بيرم: قال إيه مراد ابن آدم.. قلت له طقة قال إيه يكفي منامه.. قلت له شقة قال إيه يعجل بموته.. قلت له زقة قال حد فيها مخلد.. قلت له لأ!! يكفي أن تتأمل بعض عناوين قصائد عم بيرم والتي حملها الجزء الرابع من أعماله الكاملة «طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1984» وحمل عنوان «بيرم وحياة كل يوم» من هذه العناوين اللافتة للانتباه وذات الدلالة البالغة علي سبيل المثال: يا مصري أنت اللي هاممني و«حاجات في الحلق متحاشة» و«حرامي الرغيف» و«شغل الحكومة» و«المجاري» و«الواسطة له شغالة» و«من كلمة هايفة» و«المراقبة» و«الجماهير» و«فلوس الست» و«أهي جرايد».. وأن مضمون هذه القصائد التي يعود زمن كتابتها إلي أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي مازال صالحاً للدهشة والتأمل والتعجب. ولعل قصيدة «الجماهير» هي من أبسط وأصدق وأجمل قصائد ديوانه وتأملوا معي صدق المعاني وحرارتها حيث يقول: م المستحيل أنت تخدع أي طفل صغير وتلف عقله وتعطيه القليل بكتير لكن بأهون طريقة نخدع الجماهير لو كنت أغبي غبي تجري وراك وتسير شوف النوادي وشوف نادي السبق بالذات فيه الجماهير طوايف من رعاع وذوات يحطوا ميت ألف أهيف في نظير ريالات حسبة ما تدخل دماغ - من غير مؤاخذة - حمير النصابين بيقولولك منطق الجمهور يسمع ويحفض ويتبع أيها مشهور خليل يسقف، يسقف شعب ويا خليل من غير ما يسأل عن الأسباب والتفاصيل وحمار يغني وجايب من يقول له آه.. حالا تقول الخلايق كلها وياه.. الحق يخفي وفي وسط الزحام ينداس وناس في فهم الحقيقة تتكل علي ناس ويساعدك الحظ ياللي تحسن التجعير هل أعجبتك هذه الأبيات الرائعة المروعة من قصيدة «الجماهير» هذه أبيات من قصيدة «من كلمة هايفة» لعلها أروع وأجمل: من هفوة أو كلمة هايفة نتحمق ونقوم نسب وندب ويدور العراك بالشوم وكل محموق وله فرقة تقوم بهجوم تبقي الشرارة حريقة والسحابة حسوم لا شركة تنجح ولا عيلة صفاها يدوم ومنين نشوف العدل ولا السفينة تعوم مادمنا فوق قلبها قاعدين لبعض خصوم تضحك علينا الحدادي في السما والبوم لم يشغل بيرم التونسي نفسه أو ينشغل بتصنيف نوع وجنس ما يبدعه ولا أقول ما يكتبه لم ينشغل بالنقد والنقاد وهل كتاباته زجل أم طقاطيق أم شعر عامي ولهذا لم يكن غريباً أن يلتفت عظماء وعباقرة وأساتذة «الفصحي» لإبداع «بيرم التونسي». أمير شعراء مصر والعالم العربي «أحمد شوقي» كتب عنه يقول: أنا لا أخشي علي الشعر العربي طغيان أحد أو شيء إلا بيرم وأدبه الشعبي!! أما «عباس محمود العقاد» فكتب عن أشعار «بيرم» يقول: إن الزمن ضنين بأمثال هذه العبقرية لا ينفق منها بغير حساب! ويكتب د.طه حسين عميد الأدب العربي قائلاً: إنني كنت ولا أزال من أشد الحاملين علي اللغة العامية دفاعاً عن اللغة الفصحي ولكن أزجال «بيرم» تجذبني إليها وتغتصب إعجابي اغتصاباً بما امتازت به من فصاحة وبلاغة في ألفاظها ومعانيها. ولم تكن كل الكلمات السابقة - وعلي مدار أسبوعين - سوي محاولة متواضعة من قارئ متواضع أراد أن يحتفي ويحتفل علي الورق بذكري بيرم التونسي التي حلت يوم الخامس من يناير الحالي.