في لقاء مع المخرج جلال الشرقاوي حول قضايا المسرح والفن والسياسة لم يبتعد عما يحدث في شتى محافظات مصر التي تحولت إلى مسرح للأحداث تصاعدت فيه الدراما وفاضت منه دماء مصرية تضيف إلى الأحزان حزنًا جديدًا، ما يجسد الحالة البائسة لثورة يتصارع فيها الجميع ولا يخسر فيها إلا الوطن!. وقد طالب جلال الشرقاوي بإنهاء الفرقة، والعودة فورًا إلى حوار يلم الشمل، ويحمي المستقبل من مصير مرعب ينتظرنا، ويهدد حياتنا بما لا طاقة لنا به. في البداية قدم د. مدحت الجيار الشرقاوي قائلًا: نبحر مع الفنان جلال الشرقاوي صاحب الرحلة التي تقترب من نصف قرن في المسرح والسينما والتليفزيون وأكاديمية الفنون ورحلاته في الدول العربية والأوروبية، حيث ظل مهمومًا بقضايا المسرح والسياسة وما زال، ولذلك اللقاء هنا فرصة للشباب الذي يريد أن يتعرف على السيرة الذاتية لفنان ملتزم تبنّى قضايا عديدة انتصر فيها؛ لأنه يقف مع المسرح الجاد، وظل مستمرًا رغم كل المحاولات لإعاقته. من الأمور الصعبة أن تمارس تدريس الفن وممارسته في آن واحد وتنجح في كليهما باقتدار كما فعل الشرقاوي صاحب الأداء المتميز في التمثيل، والذي كانت نبرة صوته مضافة إلى التجسيد علامة مهمة في الأداء. ووصفه الجيار بأنه صاحب مواقف شريفة واجه من خلالها مسارح وأفلامًا ومسلسلات المقاولات، فتفوق في أن يكون النموذج الذي يتمناه المخرج والممثل والأستاذ الجامعي. إحساس مضطرب وتحدث الفنان جلال الشرقاوي وقال: أشعر بالفرح والحزن! الفرح لأنني أعود إليكم لأتبادل الحوار مع نخبة متميزة من الحضور بعد غياب طال عدة سنوات.. والحزن لما تمر به البلاد هذه الأيام وأثرت من بين ما أثرت عليه مشاركة الناس في مناسبة ثقافية مثل معرض الكتاب.. أين كنا؟ وأين أصبحنا؟ دُعيت وتصورت أني سأسرد بعضًا من مسيرتي في المسرح عبر نصف قرن، متخذًا من سيرتي حجة لاستعراض تطور المسرح المصري، وأن أحاضر عن المسرح السياسي الذي أصبح سمة مميزة لمسرح الفن الذي أديره منذ ثلاثين عامًا. وأمام هذه الحوادث المتسارعة أتساءل طوال طريقي إليكم فيما يمكن أن أحاضر؟.. أي موضوع أنتقيه لكي نتجاذب أطراف الحديث حوله؟ أنا حائر هل تدلوني. ويتابع: لم تكن ثورة يناير مفاجأة لي، ولا أغالي إذا قلت أنني تنبأت بها قبل أن تحدث بعامين.. قلت: إن الثورة قادمة والسبب أنني قرأت التاريخ جيدًا.. لقد مهد للثورتين الروسية والفرنسية الأدباء والمفكرون والفنانون.. الأقلام كانت تحرض على الثورة، والفن كان يضيء السبل لمواجهة الظلم والطغيان والإقطاع. أقلام "مولير" وزملائه من الأدباء مثل "بومرشيه" وغيرهم غيرت مسار التاريخ الفرنسي، والشيء نفسه حدث في روسيا مع أدباء آخرين.. من ذلك التاريخ استطعت التنبؤ بالثورة.. ففي مصر لم تكن أقلام الأدباء بمنأى عما يحدث في مصر من فساد لم يحدث مثله في العالم أجمع..وأستطيع القول بأن ثورة مصر كانت ثمرة الأقلام والإبداعات الفنية.. ولكن لم يكن عند هؤلاء الفنانين - وأنا واحد منهم - جرأة على أن نضع أرواحنا على أكفافنا وننزل الميدان، موقع الشاعر كان القصيدة والكاتب المقال والسينمائي الفيلم والمسرحي المسرحية.. هي مواقع نجيد العمل فيها ولم نكن نعرف موقعًا آخر نستطيع الجهاد فيه. لكن الشباب بجرأة وجدوا على أرض الواقع ما حلمنا به - نحن الرومانسيين - فعبروا واقعيًّا عن هذا الحلم، ونجحت ثورتهم ونجحت أيضًا ثورتنا التي حلمنا بها! فتحدث العالم عن ثورة سلمية قادها الشباب وتتابعت الأحداث المعروفة لدينا إلى أن استطاع التيار الإسلامي الانضمام للثورة، وتتوالى الأحداث لنصل إلى انتخابات قبل وضع الدستور، وانتخاب مجلسي الشعب والشورى وحل مجلس الشعب والتنافر بين الأحزاب التي تريد مصر دولة مدنية وبين التيارات الإسلامية التي تريدها دولة دينية وبدأ الانشقاق.. موقف بورسعيد ويواصل: الذكرى الثانية لثورة يناير مرّت بأقل الخسائر ثم صدرت أحكام أسعدت البعض وأحزنت البعض الآخر.. وها هي بورسعيد المدينة الباسلة تحترق الآن، فماذا يمكن أن نفعل لرأب الصدع ؟ لا يوجد إلا حل واحد يمكن تلخيصه في جملة قصيرة "لا استحواذ لا تكويش لا فصيل واحد يحكم مصر"، كل الأفكار لابد أن تتزاوج وتتحاور؛ لأن مصر ليست بلدًا صغيرًا بل كبيرًا يضم إيديولوجيات وأفكارًا متنوعة لابد أن تحترم.الديمقراطية ليست صندوق الانتخاب ولكن أن تحكم البلد الأغلبية التي تقدّر المعارضة وتتحاور معها لتصل إلى مستقبل أفضل، والأغلبية التي لا تضع في حسبانها آراء المعارضة تمارس ديمقراطية منقوصة. أدعو إلى الحوار وليس التنافر، ليجتمع الشمل، والزمن كفيل بأن تندمل الجروح.. لابد من التخلي عن الأغراض والمصالح ووضع مصر نصب الأعين، هناك فقط قد تكون نقطة البداية التي نسعى إليها. دور المثقف وفي سؤال حول دور المثقف يجيب الشرقاوي: للأسف الشديد أن التعليم في مصر وصل إلى قمة الهاوية، يتخرج الطالب في الجامعة أميًّا!. وأنا أستاذ في أكاديمية الفنون ويتقدم إلينا كل عام للدراسة نوعان من الطلبة الأول حاصل على الثانوية، والثاني على شهادة جامعية أغلبهم مستواهم متدنٍ ويفتقر إلى المعلومات العامة بينما يلقون العبء على التعليم الذي يلقبونه بالمجاني.. وأنا تعلمت بالمجاني وكنا ندرس ونتحدث الإنجليزية والفرنسية في الابتدائية وفي الثانوية كنا نجد المواد الجادة والمدرسين المخلصين، ولم آخذ درسًا خصوصيًّا فما سر الانحدار.. التعليم أساس جوهري في نهضة مصر وأقول لرئيس الدولة والحكومة ضعوا أمامكم هدفًا هو التعليم. المسرح المدرسي وعن المسرح المدرسي واندثاره يقول الشرقاوي: يعود الفضل للمسرح المدرسي والجامعي أنه قام بتخريج أجيال عديدة من الفنانين منذ الخمسينيات وسأضرب لكم مثلًا بي: كنت طالبًا بالمدرسة الخديوية في السنة الثالثة الابتدائية، كان هناك عشرون جماعة للهوايات وحصص مخصصة للرسم والموسيقى والخطابة والتمثيل والصناعات الكيماوية، فضلًا عن كل الألعاب الرياضية وملاعب متسعة لكرة القدم والسلة والمصارعة في المدرسة الثانوية، بينما تحولت هذه الملاعب الآن لكتل خرسانية..كنت في فريق التمثيل نقدم أربع حفلات من نصوص ل أحمد شوقي، وعزيز أباظة، وتوفيق الحكيم، ومولير، وشكسبير، ورصين، وجوجول.. وغيرهم من الأدباء الكبار، حيث التنوع والثراء في الثقافات وحفظت أنا صغير مصرع كليوباترا والعباسة لعزيز أباظة.أذكر أننا في المسرح الجامعي وكنت حينها طالبًا بكلية العلوم جامعة القاهرة في منافسة بين الجامعات نهاية كل عام على درع، وكان المسرح يسير جنبًا إلى جنب مع النشاطين الثقافي والرياضي.. إن المسرح المدرسي والجامعي خرّج نجوم مصر في السينما والمسرح حتى يومنا هذا. تخلف الواقع وقال الشرقاوى ردًا على سؤال حول أسباب التخلف وضياع الهوية الثقافية وتشويه الوجدان المصري بأن أسباب ذلك يرجع إلى أن التليفزيون والإذاعة تخضعان لرقابة الحكومة وأضرب مثلًا ببعض أعمالي: قمت بإخراج مسرحيات: مدرسة المشاغبين، والجوكر، وأنا وهو وهي، وتم عرضهم مئات المرات في التليفزيون وهذه المسرحيات نضعها في باب الترفيه وليس الفن الحقيقي وهذا خطأ بالغ ؛ لأن الحكومة لا تعرض إلا هذه النوعية ولا تعرض لي مثلًا مسرحيات جادة من عينة: "الخديوي" التي قمت بإخراجها عام 1992، و"الرصيف" 1986، و"دستور يا أسيادنا" 1995، وانقلاب 1988 حتى يومنا هذا الممانعة من الحكومة.. والفن يقدم مسرحيات ترقى إلى مستوى الفن العظيم ولكن الرقابة الحكومية ترفض وتمنع هذه المسرحيات. والسينما الأمريكية تقدم كل عام ألفي فيلم في السنة ألف و"900" فيلم منهم مقاولات وما يتم تصديره فقط 20 فيلمًا.. إن فيلم "الرسالة" ممنوع عرضه في التليفزيون المصري ومسرحيتي "ع الرصيف"، و"دستور يا أسيادنا" لم تعرض وعرضت في كل الدول العربية، وهذا خداع فليست الجريمة جريمة الفن ولكن الرقابة الحكومية التي تصادر الفن . حلم الشباب وعن انكسار الحلم قال أحد الشباب: في الماضي كانت الأحلام مرتبة فالجيل السابق حلم ، وحقق ما يريد بينما الآن هناك ما يشبه فوضى في الأولويات، تغيرًا في المفاهيم فصرنا جيلًا ينفذ أحلام أجيال سابقة.. وثورتنا هي بركان وانفجر، لقد تم حبسنا داخل التاريخ وما نعيشه تجديد لصراعات قديمة بدأت منذ الخمسينيات والستينات ومن يموت هم الشباب ومن يربح ليس الشباب.. أنا غير موجود على الشاشة السينمائية التي تقدم الشاب المصري بإحدى طريقتين إما مرفهًا يبحث عن نزواته أو بلطجي في العشوائيات، حتى الإعلام يتجاهل الشاب إذا لم يكن مصنفًا سياسيًّا؟. وأجاب الشرقاوي على ذلك فقال: كل ما قلته صادق وحقيقي، أنتم حققتم ما حلمنا به، ولكني أقول إن المتهم الأول هو أنتم يا شباب 25 يناير؛ لأنكم تركتم التحرير بعد تنحي مبارك والقانون الطبيعي للثورات يقول: كان لابد أن تقودوا ثورتكم ولا تتركوها لغيركم، والآن تستأنف الثورة فلا تقعوا في الخطأ نفسه شكلوا منكم الرئيس والحكومة لا تجعل الثورة تسرق منك مرة أخرى فلا ترتكب الخطأ مرتين.. لا تترك ثورتك أنت صاحبها وأنت من يقود هذا البلد.