لم يبتعد الفنان الكبير جلال الشرقاوى عما يحدث فى شتى محافظات مصر التى تحولت إلى مسرح للأحداث تصاعدت فيه الدراما وفاضت منه دماء مصرية تضيف إلى الأحزان حزنا جديدا، فشل فى رسم ابتسامه، وفضحت نظراته المنكسرة ما يجسد الحالة البائسة لثورة يتصارع فيها الجميع ولا يخسر فيها إلا الوطن! فقد طالب جلال الشرقاوى فى لقائه برواد معرض الكتاب بإنهاء الفرقة، والعودة فورا إلى حوار يلم الشمل، ويحمى المستقبل من مصير مرعب ينتظرنا، ويهدد حياتنا بما لا طاقة لنا به. الشرقاوى بدأ حديثه إلى الجمهور بقوله: أشعر بالفرح والحزن!.. الفرح لأننى أعود إلى معرض الكتاب لأتبادل الحوار مع نخبة متميزة من الحضور بعد غياب طال عدة سنوات.. والحزن لما تمر به البلاد هذه الأيام وأثرت من بين ما أثرت عليه مشاركة الناس فى مناسبة ثقافية مثل معرض الكتاب.. أين كنا؟ وأين أصبحنا؟. دعيت وتصورت أنى سأسرد بعضا من مسيرتى فى المسرح عبر النصف قرن متخذا من سيرتى حجة لاستعراض تطور المسرح المصرى، وأن أحاضر عن المسرح السياسى الذى أصبح ثمة مميزة لمسرح الفن الذى أديره منذ ثلاثين عاما. وأمام هذه الحوادث المتسارعة أتساءل طوال طريقى اليكم فيما يمكن أن أحاضر.. أى موضوع انتقيه لكى نتجاذب أطراف الحديث حوله أنا حائر هل تدلونى؟. يصمت الشرقاوى فيصيح أحد الحضور: مشوارك.. حدثنا عن مشوارك. فيرد عليه: تصورت ذلك!.. ولكن مشوارى أقل بكثير مما تمربه مصر من أحداث متلاحقة.. ولكننا نستطيع أن نتخذ من هذا المشوار مدخلا لما تجتازه مصر هذه الأيام. ويستطرد: لم تكن ثورة يناير مفاجأة لى، ولا أغالى إذا قلت إننى تنبأت بها قبل أن تحدث بعامين.. قلت إن الثورة قادمة والسبب أننى قرأت التاريخ جيدا.. لقد مهد للثورتين الروسية والفرنسية الأدباء والمفكرون والفنانون.. الأقلام كانت تحرض على الثورة، والفن كان يضئ السبل لمواجهة الظلم والطغيان والاقطاع. وأستطيع القول إن ثورة مصر كانت ثمرة الأقلام والإبداعات الفنية.. ولكن لم يكن عند هؤلاء الفنانين- وأنا واحد منهم- جرأة على أن نضع أرواحنا على أكفنا وننزل الميدان، موقع الشاعر كان القصيدة والكاتب المقال والسينمائى الفيلم والمسرحى المسرحية.. هى مواقع نجيد العمل فيها ولم نكن نعرف موقعا آخر نستطيع الجهاد فيه. لكن الشباب بجرأة وجدوا على أرض الواقع ما حلمنا به نحن الرومانسيين فعبروا واقعيا عن هذا الحلم، ونجحت ثورتهم ونجحت أيضا ثورتنا التى حلمنا بها!. فتحدث العالم عن ثورة سلمية قادها شباب مصر العظيم وتتابعت الأحداث المعروفة لدينا الى أن استطاع التيار الإسلامى الانضمام للثورة وتتوالى الأحداث لنصل إلى انتخابات قبل وضع الدستور، وانتخاب مجلسى الشعب والشورى وحل مجلس الشعب والتنافر بين الأحزاب التى تريد مصر دولة مدنية وبين التيارات الإسلامية التى تريد مصر دولة دينية وبدأ الانشقاق.. يشير الشرقاوى إلى التشرذم والانقسام والاتهامات المتبادلة؛ اتهامات بالأخونة من جانب الليبراليين، والخيانة من جانب الإسلاميين ويقول إن ماسبق هو سبب المأساة لتنقسم مصر إلى شطرين. ويواصل: أمس الذكرى الثانية لثورة يناير مرّ بأقل الخسائر واليوم صدرت أحكام أسعدت البعض وأحزنت البعض الآخر.. وها هى ذى بورسعيد المدينة الباسلة تحترق الآن فماذا يمكن أن نفعل لرأب الصدع؟.. لا يوجد الا حل واحد يمكن تلخيصه فى جملة قصيرة «لا استحواذ لا تكويش لا فصيل واحد يحكم مصر» كل الأفكار لابد أن تتزاوج وتتحاور لأن مصر ليست بلدا صغيرا.. بل كبيرا يضم أيديولوجيات وأفكارا متنوعة لابد أن تحترم. أدعو الى الحوار وليس التنابز، ليجتمع الشمل، والزمن كفيل بأن تندمل الجروح .. لابد من التخلى عن الأغراض والمصالح ووضع مصر نصب الأعين هناك فقط قد تكون نقطة البداية التى نسعى إليها. يصمت قليلا ويعقب الدكتور مدحت الجيار: تحدث الشرقاوى عن كلمة سواء يجتمع عليها الفرقاء والمختلفون بطرق هادئة وأكثر عقلانية.. وضع المشكلة فى الفرقة والحل فى الحوار والتقارب ويتساءل: لماذا انقطع مصطلح الأمة المصرية منذ فترة فى الكتابات المصرية التى تحمل فى جلدها كل الأطياف السياسية مع أن الفكرة كانت وما تزال الحصن القادر على الاستمرار رغم ما يوجد من عصبيات. ويضيف: أشهد أن جلال الشرقاوى عالج هذه القضايا فى مسرحه السياسى وتحدث فى بعض السياقات عن الكباريه السياسى لمناقشة القضايا.. لأن المسرح لا ينفصل عن السياسة وإذا لم يتطرق الكاتب المسرحى إلى السياسة فماذا يكتب.. السياسة وقود الكتابة كما أوضح الشرقاوى فى أقل عدد من الكلمات ليعلمنا لغة التحاور. وفى المداخلات يتساءل أحد الحضور عن دور المثقف الآن وأهمية الاهتمام بالتعليم فيرد الشرقاوى: التعليم فى مصر وصل إلى قمة الهاوية، يتخرج الطالب من الجامعة أميّا! وأنا أستاذ فى أكاديمية الفنون ويتقدم إلينا كل عام للدراسة نوعان من الطلبة الأول حاصل على الثانوية، والثانى على شهادة جامعية أغلبهم يكون مستواهم متدنيا ويفتقر إلى المعلومات العامة، بينما يلقون العبء على التعليم الذى يلقبونه بالمجانى.. وأنا تعلمت بالمجانى وكنا ندرس ونتحدث الإنجليزية والفرنسية فى الابتدائية وفى الثانوية كنا نجد المواد الجادة والمدرسين المخلصين. وعن المسرح المدرسى واندثاره يقول الشرقاوي: يعود الفضل للمسرح المدرسى والجامعى أنه قام بتخريج أجيال عديدة من الفنانين منذ الخمسينات وسأضرب لكم مثلا بى: كنت طالبا بالمدرسة الخديوية فى السنة الثالثة الابتدائية كان هناك عشرون جماعة للهوايات وحصص مخصصة للرسم والموسيقى والخطابة والتمثيل والصناعات الكيماوية، فضلا عن كل الالعاب الرياضية وملاعب متسعة لكرة القدم والسلة والمصارعة فى المدرسة الثانوية، بينما تحولت هذه الملاعب الآن لكتل خرسانية. كنت فى فريق التمثيل نقدم أربع حفلات من نصوص ل أحمد شوقى، وعزيز أباظة، وتوفيق الحكيم، ومولير، وشكسبير، ورصين، وجوجول وغيرهم من الأدباء الكبار، حيث التنوع والثراء فى الثقافات وحفظت أنا صغير مصرع كليو باترا والعباسية لعزيز أباظة. أذكر أننا فى المسرح الجامعى وكنت حينها طالبا بكلية العلوم جامعة القاهرة فى منافسة بين الجامعات نهاية كل عام على درع، وكان المسرح يسير جنبا إلى جنب مع النشاطين الثقافى والرياضى. ويتطرق الحديث عن مشكلة الكتب الخارجية وكتاب الوزارة الذى لا يقول شيئا.. ومافيا الدروس الخصوصية التى يتقاضى المدرس منها فى الشهر ما يقرب من 60 ألف جنيه ويقول أحد الحضور إن جلال الشرقاوى قد لا يحصل عليهم فى الشهر فعلق الشرقاوى: أنا أدفع ولا أحصل على شىء.. وهذه المشكلات لا بد أن يتصدى لها رئيس الحكومة والوزراء.