تبدو صعوبة التغيير أحياناً مثل اجتثاث شجرة خبيثة أجتثت من فوق الأرض مالها من قرار، أما البناء فهو مثل الصبر على طرح الثمرة التى تتطلب الصبر على زراعتها ورعايتها وانتظار إنباتها حتى تطرح طرحها ، لحصاد وجنى ثمار التغيير ، وبلا شك يتطلب ذلك من الأمم المثابرة والعمل الجاد ، حتى وإن طال عليهم الأمد ل، أن التغيير يستغرق وقتاً طويلاً ، وربما يكون استعجاله من أهم تحديات ومعوقات التقدم لإستكمال عملية البناء ، فلن نتذوق حلو الثمار قبل أن نتجرع مرارة الصبر . إن التجربة المصرية فى البناء الحضارى هى تجربة تاريخية، حضارة وعلماً وتخطيطاً وبناءاً وتسامحاً وعزماً، يعترف بها العالم شرقه وغربه ، عرباً وعجماً ، فقد حفر المصريين تاريخهم وحضارتهم بدمائهم وعرقهم . فالتجربة المصرية فى بناء الاهرمات التى بقيت صامدة حتى وقتنا هذا شاهدة على العصر ورمزاً للحضارة المصرية قد كلفت المصريين الكثير من الضحايا، وظلت رمزاً لشموخ المصريين وتحديهم للصعاب وإيماناً بقدرتهم على تحدى المستحيل. وكذلك الحال بالنسبة لحفر قناة السويس التى كلفت المصريين الكثير أيضاً من دمائهم، فقد ربطت هذه القناة شرق العالم بغربه ، وجنوبه بشماله، وأصبحت طريقاً لحركة مرور التجارة العالمية ، فكانت محط أنظار الدول والامبراطوريات على مر العصور. أما عبور أكتوبر العظيم الذى حير خبراء الإستراتيجية والحرب ،الذى لايزال درساً يدرس فى العديد من الأكاديميات الأمنية والعلمية ، فلم يكن يتخيل المصريون منذ نكسة 1967 أن حلمهم فى العبور قابل التحقيق ، وكانوا بلا شك حالمون باجتياز هذا المانع الاسطورى ، وعلى الرغم من أن التكلفة كانت باهظة فى الأرواح والضحايا إلا أنهم قد سطروا تاريخهم ومجدهم بدمائهم الذكية ، لان مثابرتهم وتدريبهم وتخطيطهم لتحقيق هذا الوقت قد تتطلب منهم صبراً وإيماناً بقدرتهم على تحقيق ذلك . إن التجربة المصرية فى البناء الحضارى لا يمكن أن تنسب لشخص معين ، فليس من الإنصاف شخصنتها واختزالها فى أشخاص ، مثلما فعل شعراء النفاق فى العصور عندما كتبوا قصائدهم يمدحون وينافقون وينسبون النجاح فى بناء الأهرامات وحفر قناة السويس وعبور أكتوبر للفراعنة المصريين على مر العصور ، لان الأشخاص زائلون وتبقى الأوطان ما شاء الله . والمصريون اليوم بصدد مرحلة وملحمة جديدة فى البناء منذ ثورة يناير 2011 ، لا يمكننا أن ننسبها إلى شخص بعينه ، لأنها كانت ثورة كل المصريين ، على الرغم من أن الكثيرين قد حاولوا أن يتصلقوا إلى طموحاتهم وأحلامهم من خلالها ، فكثر الناشطين السياسيين وخطباء الفتنة والنفاق ، الذين ظنوا أنها تركة وميراث لا وارث له ، وكان سبيلهم إلي ذلك وثمنه البخس عندهم الخطب الرنانة وليس الجهد والعمل الشاق الذى لم يعرفه المصريين فى بناء حضارتهم ، وهم يحملون على أكتافهم ويرفعون أحجار الاهرمات أو وهم يحفرون مجرى القناة أو هم يعبرون خط بارليف من أجل أن تبقى مصر. أن التحدي الأكبر والدرس الذى يفتقده المصريين من تجاربهم السابقة هو استعجالهم للتغيير ونتائجه، ونخشى أن يطول عليهم الأمد فتقسى قلوبهم وتتجمد عقولهم وتتصلب شرايينهم ، فلا يصبرون على حكامهم ، بدون أن يقرأوا تجربتهم التاريخية فى البناء الحضارى . إن الدرس الذى يجب أن يتعلمه المصريين ، حكومة وشعباً، من تاريخهم وتجاربهم السابقة هو أن البناء والحضارة تستطع من منارة العقول المؤمنة بالهدف ، التى تعمل بجهد شاق وصبر على التحديات ، يجب أن تبدأ التنمية من الإنسان ، فاستصلاح العقول وبنائها الفكرى يجب أولاً قبل إعادة بناء المدن واستصلاح الأرض الجدباء، أننا بحاجة إلى نشيد في قلوبنا مدناً للعدل والمساواة ، ونستصلح عقولنا بالتسامح ونضىء بصيرتنا بالعلم الذى لا تنقطع طاقته التى تضيء طرقاتنا ، وأن نقيم جسوراً للسلام بين قلوبنا قبل أن نمد ونشيد جسوراً عبر مدننا ، قد تزلزلها روح الانهزامية والجهل إذا استحكمت فى عقولنا وضمائرنا، فلا سبيل لنا للنجاة إلا بشن حملة على تطهير العقول التى سترفع سواعدها وتدفع كل الحواجز أمام الضياء.