ثمة لازمة ثابتة، رافقت احتلال العراق بالتاسع من ابريل من العام 2003، ولا تزال بعد اربع سنوات من الاحتلال، سمته الكبري وخاصيته الاساس: لازمة السرعة الفائقة في تصفية تركة النظام السابق، منظومة حكم وبني مؤسساتية، وهياكل اقتصادية واجتماعية وثقافية وما سواها...ولكان الاحتلال في عجلة حقيقية من امر تقويض القائم نهائيا، والبدء من الصفر لاستنبات الجديد علي انقاضه. فنظام الحكم قوض بالكامل، وفي رمشة عين. ورأس هرم السلطة بداخله، وبعض من روافده الاساس، اغتيلوا قبلما تستنفذ القضايا المثارة. والجيش العراقي سرح منتموه، ورمي بهم في اتون الجوع والتشرد والمهانة. والحزب الناظم لكل ذلك حل بجرة قلم، وتكفلت باجتثاث عناصره، ومطاردتهم مفوضية سامية في الاجتثاث (تكفل بها احمد الجلبي شخصيا). والكوادر، كما الاطر العليا، كما المهندسون، كما الطيارون، كما علماء المراكز والجامعات، كما الفنيون تمت تصفية جزء كبير منهم، ولم يسلم منهم الا من صادفه الحظ فعبر الحدود لبلدان الجوار العربية، او حصل علي لجوء ما بالمهجر البعيد. ومؤسسات الدولة الكبري منحت لاحزاب/ميليشيات، تمتهن القتل بوضح النهار. ومداخيل النفط تاهت في صلب ذلك، بين استباحة المحتل، وسرقات عملائه بالسلطة ، ناهيك عما تحتكم عليه عصابات السوق السوداء، بجنوب البلاد كما بشتي ربوعه. بالتزامن وذلك، نصب بالعجلة ذاتها، مجلس في الحكم طائفي الطبع والطبيعة، وسن الدستور علي ذات الاسس، بنكهة فيديرالية ناعمة، محيلة صوبا علي التقسيم الخشن والمقنع، وتوالت الحكومات المتحصنة بالمنطقة الخضراء، حيث المصالح الحساسة للمحتل الانكلوامريكي... مصالح المخلص ، ذي الفضل العظيم . وبالاستعجال ذاته ولربما اكثر، شرع في تحرير قانون في النفط والغاز، اعتمدته حكومة المالكي بالاجماع، وقيل انها تسلمت النسخة من الامريكان واشر لها بالاعتماد فقط، ليتم تحويله علي عجل ايضا، لمجلس النواب ، حيث مجال الاقرار والمصادقة، قبل الدخول في التنفيذ. واذا تسني للمرء ان يتفهم العجلة في اقامة مؤسسات جديدة ، علي انقاض دولة دمرت هياكلها وقوضت بناها، وبات من الضروري ملء الفراغ ، فان استعجالية تمرير مشروع قانون النفط والغاز لا يمكن، في اعتقادنا، ان تقرأ الا في سياق اوسع، من عنصرين اساسيين اثنين: الاول ويكمن في كون مشروع القانون اياه، انما يبدو لنا التجسيد المطلق للاستراتيجية الامريكية الخفية، التي ثوت، من اربع سنوات مضت، خلف غزو العراق واحتلاله. وعلي هذا الاساس، فانه من الوهم الممزوج بالسذاجة البدائية حقا، الاعتقاد بان الغزو والاحتلال، جاءا لتحرير شعب العراق من الديكتاتورية ، او لتدمير اسلحة الدمار الشامل ، او لاستدراج عناصر القاعدة ، بغرض تصفيتها بعيدا عن التراب والمصالح الامريكية. النفط العراقي كان ولا يزال، المحدد الاكبر، والدافع الاعمق لغزو العراق واحتلاله. اما العنصر الثاني، فيتراءي لنا كامنا في التضييق المتزايد (الحشر في الزاوية يقول البعض)، الذي بدأ يطاول الرئيس الامريكي، ليس فقط من لدن كونغرس ضاق ذرعا بسلوك رئيس اعمي البصر والبصيرة، متهور وعنيد، بل وايضا من لدن مقاومة عراقية فائقة التنظيم، جيدة التسلح، وخبيرة، فضلا عن كل ذلك، بتكتيكات حرب الاستنزاف الطويلة المدي، التي لا سبل للعدو تذكر لمجاراتها الي ما لا نهاية. بالتالي، فتمرير القانون اياه، انما يبقي بنظر الرئيس الامريكي ومحيطه المباشر، آخر الطلقات...طلقة البائس اليئيس بالمحصلة. وعلي الرغم من ان المشروع لم يعتمد لحد الساعة، حتي وان اعتمده مجلس الوزراء ، واحاله علي البرلمان للمصادقة، فان مضمونه وتداعياته، وما قد يترتب علي دخوله حيز التطبيق، يثير بنظر الخبراء العراقيين (قبل رأينا، ونحن بالجهة الاخري من الوطن العربي)، تثير ليس التساؤل عن وفي التوقيت، او في الآية من الاستعجال (فهذه متفهمة وبديهية)، ولكن الريبة والخشية، والخوف علي القائم كما علي القادم: فمشروع القانون اجيز (وسيجاز حتما من لدن النواب ) في ظل وضعية من الاحتلال، استصدر الارادة منذ اليوم الاول ولا يزال، وسلب استقلالية القرار من اليوم الاول، ولا يزال، وسن قوانينا تجعل منه الآمر الناهي في حال العراق ومآله...المسؤولية مسؤوليته في العرف والقانون الدوليين، حتي وان لم تبح له هذه الاخيرة، تغيير معالم البلد المحتل، او رهنه بقرارات مجحفة، طويلة المدي. والحكومة التي تشرف علي المشروع، كما النواب الذين سيصادقون عليه، لا يمثلون الشعب العراقي، بقدر ما هم ممثلون لاحزاب تنشد الطائفية، تتخذ منها مرجعا ومرجعية، ولا تأبه الا في البعض منها بوحدة العراق، وسواسية ابنائه في التمتع بثروات بلدهم. وعلي هذا الاساس، فان مشروع قانون النفط والغاز يبقي، بكل المقاييس، محددا ومصاغا في مفاصله الكبري كما في تفصيلاته المضمرة بالنص، من لدن الامريكان، حتي وان ادعت الحكومة انها صاحبة المشروع، تصورا وصياغة. ولما كان الامر كذلك واكثر، فان المشروع اياه، انما يحمل في طياته بالقطع، مخاطر كبري ونذر فتنة اكبر، ليس فقط برهنه التام لثروة وطنية آيلة للنضوب لا محالة، تعتبر بالوقت الحاضر كما بالزمن المنظور العمود الفقري لاقتصاد البلاد، بل وايضا لان من شأن اعتماده المتعجل، تكريس نعرة الفرقة والتقسيم، التي حملها الدستور في طياته، واججتها احزاب تتصارع علي البلاد، كما لو ان هذه الاخيرة اضحت بين ايديها غنيمة حرب: فالمشروع لا يتحدث (بصيغته الانكليزية المعتد بها) عن كون النفط والغاز ملك حصري للشعب العراقي، بل يحول هذا الحق لفائدة مجلس اتحادي ، يضم اعضاء من المركز والمحافظات والاقاليم... اقليم كردستان بالتأكيد، ثم الاقاليم الاخري عندما يتم خلقها. لن يبدو النفط هنا ثروة للوطن، بقدر ما سيصبح ثروة للاقاليم تتقاسمها، وفق اعتبارات لا يعرفها بدقة، الا من ثوي خلف المشروع. ولما كانت اللعبة السياسية بالعراق مبنية بالاصل ومنذ زمن برايمر، علي المحاصصة الطائفية الصرفة، فان المجلس سيحمل قطعا اقوي بصماتها وتمظهراتها، ليتكرس بالتالي مبدأ اقتسام الثروة علي اسس ذات المحاصصة، فيذكي لا محالة نار الفتنة بين الجهات المنتجة، والجهات التي لا يحتكم فضاؤها الجغرافي علي مخزون يعتد به في الاقتسام. ليس هذا فحسب، بل ان الدستور يعطي الاقاليم (القائم منها كما القادم) صلاحيات تغيير القانون الاتحادي ، ان هو تعارض مع قوانينها (قوانين الاقاليم اعني). وهو ما يجعل السياسة النفطية المعتمدة بالمجلس الاتحادي، عرضة للطعن والنقض والتجاوز، لتبقي سبل التنسيق مع المركز المشار اليها بالنص، شكلية وغير ذات قيمة قانونية، ما دام الدستور قد اعطي الاقاليم سلطات تتجاوز سلطات المركز بكثير، بل ووضع قوانينها فوق قوانين المركز. والمشروع يستثني جملة وتفصيلا، عملية تكرير النفط وتصنيع الغاز واستخداماتهما الصناعية، ويقتصر علي جوانب التنقيب والاستكشاف والانتاج (ثم التصدير الخام)، في تجاوز خطير علي الانجازات التي حققها العراق في صناعة التكرير والصناعات البتروكيماوية وغيرها، بفضل شركة النفط الوطنية، التي حولها المشروع الحالي الي مجرد هيئة قابضة... مستقلة . ولما كان الامر مقتصرا علي التنقيب واستخراج النفط، فان المشروع قد وزع صلاحيات ذلك بين وزارة النفط وشركة النفط والاقاليم، التي (الاقاليم) سيكون من حقها تحديد الشركات الاجنبية بارادتها ، بمشورة غير الزامية مع الحكومة الاتحادية ... مشورة شكلية بالنهاية. والمشروع يتحدث عن حقوق حصرية (احتكارية بنهاية المطاف) قد تمنح لمستثمر اجنبي، وقد تتجاوز مدتها الثلاثين سنة. والمستثمر اياه لا يخضع بالضرورة للقانون العراقي، وقد يعفي من الضرائب لمدة من الزمن، تقدرها السلطة بمكان تواجد المستثمر وفق ما يتراءي لها. واذا كان من القائم الثابت بالعديد من الدول النفطية، معاضدة عمليات التنقيب والاستكشاف، كونها مكمن مخاطرة ومجازفة كبيرتين (بالاعفاءات الضريبية او بما سواها من امتيازات)، فان منح المستثمرين الاجانب (الشركات الاحتكارية قصدا) مددا حصرية طويلة المدي، قد تصل الي 34 سنة، امر مبالغ به بجميع المعايير. فاماكن تواجد نفط العراق معروفة ومحددة، لدرجة يقدر الخبراء ان هناك 75 حقلا نفطيا جاهزا للاستغلال حالا، لم يشغل منها الا حوالي 17 حقلا. وهناك العديد من الحقول الغنية، جاهزة للاستخراج، باحتياطات تزيد علي 17 مليار برميل، كما هو الحال بحقل مجنون مثلا. ما سر الحديث اذن، عن المخاطرة او المجازفة، اذا كانت آلاف الآبار جاهزة للحفر، ولا تتطلب كبير استثمارات لاستغلالها...لا بل ان استغلالها بالتزامن (وهي مادة ناضبة) يفوق بكثير القدرة الاستيعابية للعراق، سيما وان الصناعة الاستخراجية العراقية معروفة بانخفاض كلفتها، وتدني منسوب المخاطر من بين ظهرانيها؟ لماذا اذن اعفاء المستثمر الاجنبي ( مالك حق التنقيب والانتاج بمنطوق المشروع) في التنقيب والاستكشاف، اذا كانت العملية غير مكلفة، والارباح مضمونة قد تصل نسبا جد مرتفعة من رأس المال؟ ليس ثمة من شك، فيما يبدو لنا، ان مشروع قانون النفط والغاز انما يضع احتياطات العراق المعلنة (115 مليار برميل من النفط الخام) كما التي بطور الاستكشاف (214 مليار برميل) ناهيك عن احتياطات غاز، تقدر بحوالي ترليون متر مكعب...يضعها مجتمعة، وبدون مقابل كبير، بين يدي الشركات الاحتكارية الامريكية والبريطانية، تتصرف فيها كما يعن لها... وب القانون . ان مشروع النفط والغاز الذي يعتزم الاحتلال الامريكي سنه للعراق، انما هو مشروع ملغم بكل المقاييس، ليس فقط لانه يضع ثروة العراقيين الاساس بين يدي شركات امريكية وبريطانية لا اخلاق لها تذكر، بل وايضا بين يدي عملاء لهم بعين المكان، يستعجلون اقرار المشروع لتحصيل جزء مما يتركه السبع، قبل ان يعودوا للبلدان التي جنستهم في زمن من الازمان...ولربما ستجبرهم المقاومة العراقية، علي امتطاء نفس الدبابات التي اتت بهم من اربع سنوات خلت.