مازالت صيحات "الآذان" تجلجل فى سماء غزة رغم تدمير مئات المساجد، وتعمد قوات الاحتلال فى قصفها؛ لأنهم يدركون جيدا أنها محضنة تربية الرجال التى أخرجت القساميين ومن على شاكلتهم من إخوانهم المجاهدين. إن إرادة الصمود عند أهل غزة لا تقف عند حد، فكلما هدمت إسرائيل مسجدا بنى الغزاويون خيمة للصلاة فيها. وتقول إحصاءات: "إن الاحتلال دمر نحو ستين مسجدًا كليا، و150 مسجدا بشكل جزئى". لم يستطع السبعينى صبحى ياسين حبس دموعه، وهو ينظر إلى ركام مسجد الإمام الشافعى الذى دمره الجيش الإسرائيلى خلال العدوان المستمر على قطاع غزة، فالعلاقة التى نشأت بينهما قبل أكثر من نصف قرن وطدتها ساعات طويلة كان يقضيها بين جنبات المسجد الذى أصبح أثرا بعد عين. يقول الفلسطينى ياسين - الذى فقد حفيده خلال العدوان-: "إنه لم يبكه بقدر ما بكى حزنا على تدمير المسجد الواقع جنوب شرق غزة"، ويضيف "كانت الساعة الثانية فجرا يوم السبت (2 أغسطس)، وكنت أقف على مسافة قريبة من المسجد والصواريخ العشرة تتساقط عليه. كان كل شئ يتطاير من حولى وعيونى تذرف دمعا، لقد كان بيتى، نَعَمْ، إنه بيتى". إرادة قوية وتبدو عزيمة السبعينى قوية؛ لمواصلة علاقته المتينة بمسجده، إذ إنه حضر قبل صلاة الظهر بنحو ساعتين إلى خيمة نصبها المصلون فى إحدى ساحات المسجد؛ ليواصل ورده اليومى بقراءة القرآن والتسبيح، ويؤكد أن المسجد - الذى بنى من قوت الفقراء- سيعاد بناؤه أفضل مما كان. ويضم المسجد - الذى كان يتربع على مساحة 6500م2 - أكبر مركز لتحفيظ القرآن بقطاع غزة، ويقول محمد السوافيرى أحد رواده "للجزيرة نت": "إن المسجد خرّج أكثر من 250 حافظا للقرآن، ويحتضن مقرات للجنة الشرعية لحقوق الإنسان، ورابطة علماء فلسطين، ولجنة إصلاح ذات البين، ولجنة زكاة الزيتون فى طوابقه الثلاثة". وتظهر إرادة الفلسطينيين جلية فى تحدى العدوان، إذ إن المصلين فى مسجد الإمام الشافعى - الذى بنى فى ستينيات القرن الماضى- لم يفوتوا أى صلاة فيه بعد قصفه، ويقول السوافيرى: "إن الإسرائيليين لم يفلحوا بإخماد كلمة "الله أكبر"، رغم تدمير المسجد آذان فوق الركام ولم يختلف حال مسجد "شهداء الأقصى" - الذى بنى مع انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000م وسمى باسمها- كثيرا عن سابقه، حيث ألقت الطائرات الإسرائيلية عليه صاروخين ثقيلين، فسوت معظمه بالأرض، لكن مئذنته بقيت شامخة ولم تسقط. ورغم أن المسجد - الذى يقع فى وسط مدينة غزة- لا يصلح للصلاة بسبب القصف، إلا أن مؤذنه إبراهيم أبو حصيرة يسارع كل صلاة للآذان من على ركامه، ويقول "للجزيرة نت": "إن إسرائيل واهمة إن كانت تظن أن باستطاعتها إخماد صوت "الله أكبر" مع كل صلاة". ويبدى مؤذن المسجد - الذى قصف يوم الإثنين (21 يوليو)- استغرابه من تبرير إسرائيل قصف المساجد بذريعة استخدامها بأعمال للمقاومة، ويضيف أن "إسرائيل عجزت عن مواجهة المقاومين فى ميدان المعركة، فقصفت المساجد والمدارس وبيوت الآمنين". ويأمل أبو حصيرة - الذى كان يحمل قطعة من سجاد فرش به المسجد قبل قصفه بعشرة أيام- انتهاء العدوان؛ للشروع بإزالة الركام وإقامة مصلى صغير لرواده، على أن تبدأ أعمال بناء المسجد -أفضل مما كان- بعد توفر الإمكانيات اللازمة لذلك، كما يقول. وفى الجهة المقابلة لمنزل الرئيس الفلسطينى محمود عباس غرب مدينة غزة "يصدم" الناظرين مشهد مسجد "الأمين محمد"، والذى كان يشتهر بزخرفته الإسلامية، وبنائه الحديث، فالطائرات الإسرائيلية حولت طوابقه الثلاثة من الداخل إلى كومة من الحجارة والحديد. المسجد - الذى بُنى قبل عقد من الزمن- كان يوفر دروس تقوية للطلاب ضعاف التحصيل العلمى، ويدرّس العلم الشرعى، ويحفظ القرآن الكريم، وقدّم خلال العدوان وقبله إعانات للنازحين، كما يقول أيمن أبو زريبة، أحد رواد المسجد. وهدف إسرائيل من قصف المساجد هدم الدين الإسلامى والعقيدة فى نفوس الفلسطينيين - بحسب أبو زريبة-، لكنه يقول إنها واهمة "فها هى هدمت المسجد، فبنينا خيمة لنصلى فيها، وإذا هدموها سنبنى خيمة أخرى، وسنعيد بناء مسجدنا على نفس الأرض، لا بل سنوسعه إن شاء الله-" ودمّر الجيش الإسرائيلى أكثر من ستين مسجدا بشكل كلى، و150 مسجدا آخر بشكل جزئى خلال عدوانه على غزة، كما قصف 11 مقبرة للمسلمين والمسيحيين، وثلاث لجان زكاة، ومدرسة شرعية، بحسب آخر إحصائية صادرة عن وزارة الأوقاف والشئون الدينية فى فلسطين.