ليس الحج مجرد أداء فريضة دينية. ولا هو مجرد أداء طقوس وشعائر. لكنه تجربة روحية عميقة. تترك في النفس أثراً باقياً لا يقتصر علي البعد الديني. بل إنها تشمل كل ما في حياة الانسان المسلم. بداية من إحساسه الفردي بالوقوف والتنقل بين الاماكن التي شهدت فجر الاسلام. وتعبير مئات الكتب عن تلك الرحلة الدينية التي بدأت بآحاد من البشر. وصارت الآن أكبر حشد ديني قوامه الملايين من أبناء المسلمين. تعلو أصواتهم بالتلبية. ويؤدون الفريضة التي يأملون ان تزول فيها ذنوبهم. ويستقبلوا أيامهم التالية بنفوس تحرص علي الخير والسلام والحب. هي - في رؤية د. محمد أبوالفضل بدران- لحظات روحانية مختلفة تماماً. قيمة هذه اللحظات في أننا نمشي علي أرض قد خطا عليها الرسول صلي الله عليه وسلم وصحابته. ونتذكر الاحداث التاريخية. وكل ما حدث في السيرة. كم تمنيت أن تظل هذه الوقائع في موضعها في الذاكرة. وأن نحافظ عليها كتراث عظيم إنها معارك بين الحق والباطل في أرض أنت تمشي عليها. وتشعر ان الرسول ومن معه لامسوا حبات الرمال. يتلاحم المكان والزمان ويتحول الزمان من الماضي إلي الواقع المعاش. كان ذلك هو الاحساس الذي انتابني وأنا أزور الاراضي المقدسة للمرة الاولي. وأذكر أني كتبت قصيدة حول هذا المعني. لعلي- بالمناسبة- أتمني ان تعد دورة إعداد لكل من يعتزم الحج قبل أن يبدأ خطوات السفر. دورة تثقيفية لكل المناسك. والاهداف من هذا المناسك من استدعاء الاحداث التاريخية. حتي يشعر الحاج بجلال الموقف في طوافه حول البيت الحرام. وسعيه بين الصفا والمروة. وتقبيله الحجر الاسود. بحيث لا تتحول عند البعض إلي مجرد طقوس. لا يعرف مغزاها. من الممكن كذلك استثمار هذه الاوقات ثقافياً. أنا ضد السياسة في مثل هذه الاوقات لكن الثقافة لابد ان تتدخل ثقافة حقيقية تستوعب الاعداد الهائلة من الحجاج. ليست شيئاً جديداً. ففي خطبة الوداع كان هناك سياسة وتبصير وثقافة ورعاية للمرأة. وهناك أيضاً النواحي الاقتصادية كل هذه الاشياء يمكن استثمارها في الحج. الحج عرفة ويري د. سعد أبو الرضا في لحظات الوقوف أمام المشاعر المقدسة ما يعزله عن كل ما حوله. بحيث يتجه بوجدانه وذهنه إلي النورانية الهائلة التي تهبه زاداً فيما تبقي له من عمر. يعود من رحلة الديار المقدسة- كما يقول الحديث الشريف- كيوم ولدته أمه. أذكر- في هذا السياق- رواية للسعودي عبدالله العويني. تتحدث عن إمام مسجد صغير اعتاد ان ينطلق منه كل عام إلي الحج. وأدي حرصه علي القيام بمناسك الحج إلي دعم مكانة الامام في قريته وبين الذين يؤمهم في مسجده الصغير. ولا أنسي- في المناسبة الكريمة- أغنية أم كلثوم: إلي عرفات الله فالانسان يجد نفسه في موضع الواقف علي عرفات. ذلك الذي أكد الرسول صلي الله عليه وسلم مكانته في القول "الحج عرفة" وقد دعا نبي الله بالمغفرة لكل من يقف في عرفات وهناك حديث قدسي معناه أن الله سبحانه يباهي ملائكته ويقول لهم: لقد غفرت لعبادي هؤلاء الواقفين في عرفات وكل من يأتي إلي هذا المكان من المسلمين يتعلقون بالوقوف في عرفات. أتمني من الله وأسأله ان يرزقنا الوقوف في عرفات والحج ومشاعره وهي- بالقطع- أمنية كل الادباء والنقاد. وكل من يؤمن بالاسلام ديناً فالحج فريضة ومن زار هذه الاماكن يشتاق إليها. ويأمل العودة لزيارة البيت الحرام والروضة الشريفة وكل الاماكن التي بدأ فيها الاسلام هدي للعالمين. وفي تقدير الكاتب والناقد محمد السيد عيد أن رحلة الحج تعطي الانسان شحنة دينية قوية. ومن الطبيعي ان يعبر الادباء عنها. في تاريخنا الحديث مئات من الشعراء والادباء عبروا عن مشاعرهم خلال رحلة الحج في مختلف مراحلها من أهمهم بيرم التونسي الذي كتب عن هذه الرحلة بروح صافية في قصيدته البديعة لأم كلثوم. لدرجة اني أتخيل جبال مكة هي بالفعل جبال من النور وقد كتب أنيس منصور كتاباً منصور كتاباً كاملاً عن هذه الرحلة وأنا شخصياً ألفت مسلسلاً إذاعياً كاملاً عن هذه الشعيرة أو الركن المهم من أركان الاسلام سميته "لبيك اللهم لبيك" وأظن أنه في قابل الايام لن يتوقف التعبير عن هذه المشاعر لان الحج بالنسبة للانسان تجربة فريدة يشعر فيها أنه يغسل روحه. لحظات علوية ويشير د. محمد علي سلامة إلي كتابات لاحسان عبدالقدوس مقالات وقصص تحدث فيها عن المشاعر التي استغرقته عند زيارته الكعبة المشرفة وتذكره لدور هذا الصرح المهيب في حياة البشرية والحق ان هذه الكتابات لاحسان أبلغ رد علي من يتساءلون : كيف أصبح ابنه محمد متديناً؟! وإذا كان كتاب طه حسين "علي هامش السيرة" قد أفرد الجزء الاكبر من مساحته لتعامل العرب في الجاهلية مع الكعبة فإنه في "مرآة الاسلام" يسهب في التعبير عن مكانة الكعبة وقيمتها وقداستها في نفس كل مسلم. ومن الصعب ان نغفل كتاب د. محمد حسين هيكل "في منزل الوحي" بل إن د. زكي نجيب محمود صاحب الفلسفة الوضعية كتب في مقالة له عن حيرته الدينية والفلسفية التي انتهت إلي التيقن من ان الدين الاسلامي يتفوق بروحانيته وباحتضانه لمشكلات الانسان علي كل ما عداه كذلك د. سيد النساج. الذي قرأنا له أروع ما كتب عقب عودته من رحلة الحج. لحظات علوية نورانية. في طوافه حول الكعبة المشرفة وفي تقبيله الحجر الاقدس. وزيارة مسجد الرسول وتأمل كل الاماكن التي كانت شهدت بزوغ الدعوة المحمدية. وبالنسبة لي. فأنا اذكر أول مرة زرت الكعبة معتمراً. شعرت- بكل صدق- ان الكعبة بناء ممتد إلي السماء. ودققت النظر أحاول الكشف عن فضاء يفصل بين الكعبة والسماء فلم أجد ثم تبينت ان فوقها هالة من النور. وطالبت من الله- آنئذ - ان يملأ عيني بنوره وحبه ويغنيني عن حب مظاهر الدنيا وتجدد هذا اللقاء وهذه المشاعر كلما زرت الكعبة حاجاً أم معتمراً. اذكر كذلك في زيارتي إلي الروضة الشريفة. شعاعاً أخضر ينبعث من قبر الرسول إلي الروضة الشريفة. لم تكن الروضة مزدحمة فأدركت أني لا أزور مكاناً من الحجر وإنما أزور المعني الكريم الهائل وراءه. ويتحدث الاذاعي هشام حنجل عن كتاب أنيس منصور"طلع البدر علينا" الذي عرض فيه لأيامه في الاراضي المقدسة. يقول: مازلت أذكر جملة رائعة: انني لا أدعو إلي دين جديد. وإنما إلي إحساس جديد بالدين فالتجربة تعطي الانسان مشاعر جديدة وتجعله يتفكر في الدين والشعائر الدينية بإحساس جديد. سبقت قراءتي لهذا الكتاب ما ذكره أحمد حسن الزيات عن أرض الحجاز. كانت أقطار الوطن العربي تعاني الاحتلال ويدعو الزيات إلي تحويل هذا التجمع الاسلامي الضخم إلي مؤتمر للامة الاسلامية. ويقول: ما أحوج المسلمين اليوم إلي شهود هذا المؤتمر بعيداً عن حصار المستعمرين في أوطانهم المغتصبة. عندما أقرأ هذه الكتب وغيرها وتناولها لصورة الحياة في الاراضي المقدسة أتمني ان تتاح لي تلك الفرصة العظيمة والمؤكد ان مشاعري ستختلف عما وهبته لي كتابات الادباء من مشاهدات ورؤي اهتزت لها مشاعري. وكما يقول المثل فليس من سمع كمن رأي.