لم ينجل الغموض في المشهد الليبي مُنذ تلبَّدت الأجواء في أعقاب اغتيال قائد قوات الثوار اللواء عبد الفتاح يونس في ظروف مُريبة. وزاد الصورة تعقيدا، تضارب الأنباء الأخيرة عن احتمال إجراء جوْلات مفاوضات في جزيرة جربة أو العاصمة تونس، بين ممثلين عن العقيد معمر القذافي ومندوبين عن الثوار، وهي أنباء نفاها الجانبان، مع أن مبعوث الأممالمتحدة الأردني عبد الإلاه الخطيب، أكّد أنه التقى الطرفيْن في العاصمة التونسية، ما حمل على الاعتقاد بأن وجود الوفدين في مكان واحد وفي نفس التوقيت، ليس من باب الصدفة. لكن حتى لو صحّ أن الجانبين يُجرِيان اتصالات بعيدا عن الأنظار، فإن كِليْهما يمُر في وضع حرِج، إذ أن الانتصارات العسكرية التي حققها الثوار، بدأت تُضيق الخناق جديا على القذافي، للمرة الأولى منذ اندلاع الصراع. وفي المقابل، ألقت تصفية يونس قُنبلة فجَّرت وِحدة المجلس الوطني الانتقالي، ودفعت إلى الواجهة الصِّراع الصامت بين الثوار وأعضاء المكتب التنفيذي، الذي هو في مثابة حكومة المنفى. وعلى رغم أن الرئيس الانتقالي مصطفى عبد الجليل، طلب من الرئيس التنفيذي محمود جبريل إعادة تشكيل المكتب، لم تُفضِ المشاورات الحثيثة التي يُجريها هذا الأخير منذ أكثر من أسبوع عن صيغة توافقية، ما عكس عُمق الأزمة في صفوف القيادة السياسية للثوار. يونس الليبي ورمضان الجزائري يُذكِّر مصير اللواء يونس بنهاية القائد البارز في الثورة الجزائرية عبان رمضان، لكن إذا كان العسكريون في الثورة الجزائرية، وفي مقدمتهم وزير الاستخبارات والتموين الحربي عبد الحفيظ بوصوف، هُم الذين رتَّبوا نقل العقل المخطط ل "جبهة التحرير الوطني" رمضان إلى تونس في 1958، حيث تمّ اغتياله في إحدى الفِلل التي كانت على مِلك الجبهة، حصل العكس في الثورة الليبية، إذ استدعى علي العيساوي، نائب رئيس المجلس التنفيذي وجلال الدغيلي وزير الدفاع، اللواء يونس من الجبهة، وقبل وصوله إلى بنغازي تمّت تصفيته. لا يُعرف حتى الآن إذا ما كانت الكتيبة التي اعتقلت يونس واثنين من كِبار مساعديه، هي التي اغتالته بعد محاكمة استعجالية، أم أنها سلّمته إلى كتيبة أبو عبيدة بن الجراح كما قيل، وهذه الأخيرة هي التي حاكمته بتُهمة الإتصال بنظام القذافي، بحسب ما أشيع، أم أن كتيبة أبو عبيدة بن الجراح، هي التي سلّمت بدورها العسكريين الثلاثة بعيدا عن بنغازي لمَن كان سيوصلهم إلى المجلس التنفيذي، غير أنه صفّاهم في الطريق، بحسب رواية أخرى. وينفي مَن يعرفون العيساوي والدغيلي، حتى من المختلفين معهم فكريا، أن تكون نيَّتهما تصفية يونس. لكن العملية زعزعت القيادة السياسية للثورة في أدقّ المراحل، إذ حقق الثوار انتصارات لافتة على المسار العسكري، جعلت العواصم المؤثرة في العالم تستعيد الثِّقة في قوّتهم الميدانية وتؤمن بقدرتهم على الزّحف نحو طرابلس لمحاصرة القذافي. وبدل استثمار التقدّم العسكري على الميدان في الزاوية وصبراتة وغريان وصرمان،غربا، والبريقة شرقا، يستغرِق المجلس الإنتقالي منذ أكثر من أسبوع في صراعات داخلية، بحْثا عن تشكيلة جديدة يخرج بها إلى الليبيين والعالم. وعلى رغم تكليف رئيس المكتب التنفيذي لمحمود جبريل بإعداد التشكيلة الجديدة، فإن الأجواء السائدة بين الأعضاء "متوتِّرة وغير صحية، على نحو لا يسمح الآن بالاتفاق على تشكيلة جديدة للمكتب التنفيذي"، كما قال أحد المقرّبين من المكتب ل swissinfo.ch، رافضا الإفصاح عن هويته. وأوضح المصدر أن الثوار مستاؤون من تحاشي أعضاء المكتب التنفيذي السّفر إلى بنغازي وإصرارهم على البقاء خارج ليبيا. وأكد أن مسارعة الجميع إلى مغادرة بنغازي في أعقاب اغتيال اللواء يونس، ترك شرخا عميقا بينهم وبين الثوار. وأفاد أن المجموعات المسلحة، التي انتشرت في بنغازي لمحاولة فتح السجون وبث الرعب، لم يتسن السيطرة عليها بفضل المكتب التنفيذي، وإنما بمبادرة من إحدى مجموعات الثوار التي يقودها فوزي بوكتف. ثلاثة تحديات ويمكن القول أن المكتب التنفيذي يُواجه حاليا ثلاثة تحديات. أولاها، الشرخ الذي تكرّس بينه وبين الثوار الذين يعتبرون أن غالبية أعضائه أتَوا من المنافي ولا يعرفون واقع البلد، إلا أنهم يستثنون عناصر كانت تنشط في الداخل قبل الثورة، من أمثال نقيب المحامين الأسبق محمد العلاقي وعبد الحفيظ غوقة، الذي حل محله. وثاني التحديات، هي الخلافات الداخلية، وخاصة بين العناصر ذات التوجّه الإسلامي وزملائهم من ذوي الميول الليبرالية واليسارية. أما التحدي الثالث، فهو ضُعف الخِبرة السياسية لغالبية أعضاء المكتب، بمَن فيه رئيسه جبريل، الذي صمت طيلة الأسابيع الماضية في فترة أزمة دقيقة ولم يظهر في أية وسيلة إعلامية لطمْأنة الليبيين. وأخذ مصدر قريب من المجلس على جبريل، كونه أعطى صلاحيات مُطلَقة للوزراء ولم يكُن يجتمع معهم أو يستفسرهم عن القرارات التي اتَّخذوها، وكأنهم لا ينتمون جميعا إلى قيادة متضامنة. وإذا ما أدركنا أن الرئيس المؤقّت مصطفى عبد الجليل ليس خطيبا مفوها ولا نجْما إعلاميا، تبين الدور الكبير المُناط برئيس المكتب التنفيذي وأعضائه في مواجهة الآلة الإعلامية المُدربة للقذافي. ولوحظ غياب كامل للمكتب التنفيذي في وسائل الإعلام العربية والدولية منذ اغتيال اللواء يونس، فيما يشكِّل هذا الجانب رُكنا أساسيا في الحرب النفسية الدائرة مع كتائب القذافي. وسعيا للسيطرة على الوضع السياسي، ناقش أعضاء المجلس في الأيام الأخيرة في الدوحة خيارات عدّة، من بينها توسيع المجلس إلى عشرين عضوا بدَل خمسة عشر حاليا، نظرا لكثرة الأعباء. ومن تلك الخيارات أيضا، التخلِّي عن خمسة من أعضاء المكتب المستقيل كي لا يبدو إبعاد علي العيساوي وجلال الدغيلي، إدانة للتيار الإسلامي الذي يُناصرانه، وإنما يشمل الإستبعاد عناصر أخرى ليبيرالية أو يسارية، لكن لم يحصل توافق على هذا الخيار أيضا. وذكرت مصادر حسنة الإطلاع، أن مناقشة المبادرات التي عرضها القذافي على المجلس الإنتقالي، ألقت بظلال سلبية على الأجواء داخل المكتب التنفيذي، إذ أنها كانت مجرّد مناورات لدقّ إسفين بين خصومه، ولكنها ساهمت في تسميم الأجواء وتأجيج الصِّراعات التي كان القذافي يعلم أنها تُمزِّق المجلس، بسبب التجاذبات الفكرية والمناطقية، وخاصة الصِّراع الصامت بين من اشتغلوا مع النظام في فترات سابقة والذين كانوا لاجئين في الخارج. مبادرة أم مناورة؟ وأوضح مصدَر قريب من المجلس الإنتقالي، فضل عدم ذكر اسمه ل swissinfo.ch، أن الشيخ علي الصلابي تلقّى قبل فترة اتصالا من محمد عريبي، أحد المقربين من القذافي الذي عرض عليه مخرجا سياسيا، يتمثل بتعيين مجلس مستشارين مؤلف من ستين عضوا، يتسلم الحُكم ويقود البلد في فترة انتقالية، إلا أن المجلس رفض المبادرة. بهذا المعنى، يبدو تصديق الروايات المُتداوَلة في شأن احتمال وُجود مُفاوضات بين القذافي والمجلس في تونس أو جزيرة جربة، مثلما ردّدت بعض وسائل الإعلام في الأيام الأخيرة، أمرا بعيدا عن الواقع. وكل المؤشرات تدُل على العكس. فالقذافي، المُتمتْرس وراء أسوار قلعة باب العزيزية المُحصنة بالصواريخ والمدافع الثقيلة، لن يذعن لمصيره المحتوم، وإن كان الذين عرفوه يُؤكِّدون أنه سيلجأ للتفاوض عندما تُغلق في وجهه جميع الأبواب وفي اللحظة الأخيرة. ونفى مصدر قريب من المجلس الانتقالي، أن تكون جرت أخيرا أية مفاوضات بين الجانبين، سواء بحضور الموفد الأممي عبد الإلاه الخطيب، الذي زار تونس أخيرا أم في غيابه. وعلى العكس من ذلك، دل استخدام صاروخ قصير المدى من طراز "سكود" لأول مرة انطلاقا من سرت، على أنه ما زال يملك أسلحة لم يُدخلها إلى ساحة المعركة. ولوحظ أن أجهزة القذافي قامت بحملة واسعة في طرابلس في الأيام الأخيرة، لمصادرة هواتف "الثريا" التي تتيح الاتصال بالثوار والتنسيق معهم، تمهيدا لمعركة طرابلس، غير أن ذلك لا يعني أن أجهزة القذافي ما زالت في صحة جيدة، إذ أن جهاز المخابرات فقَد 70% من كوادره على ما يبدو، خصوصا بعد انشقاق كلٍّ من رئيسه الأسبق موسى كوسا ووزير الداخلية نصر مبروك، الذي لجأ أخيرا إلى مصر. كما نجح الثوار في اختراق اتصالاته وبدأت قناة "ليبيا لكل الأحرار" بثَّ نماذج من المُكالمات المُلتقَطة والتي تُقدر بنحو ألفي شريط، ما يشكل نقطة مهمَّة في الحرب النفسية بين الجانبين. المصدر: سويس انفو