المآسي لا تأتي فرادى ، بل تأتي زرافات وبالجملة ، هذا حال مصر الآن ، غير أن المشترك الأبرز بين جميع تلك المصائب والمآسي التي تفجعنا وتوجع قلوبنا كل يوم أنها جميعا تأتي من منبع واحد وتصب في مصب واحد ، وهو أن المواطن المصري "رخيص" في بلده ، أحقر مخلوق يمكن أن تتعامل معه دولته وأجهزتها المختلفة ، تخيلوا أن ثمن حياة المصري حتى الآن في مصلحة "صك الديات" بالحكومة المصرية في أي حادثة أقل من ثمانمائة دولار أمريكي ، وإذا أصيب بعاهة يمكن أن يحصل على ثلاثمائة دولار ، وإذا كانت هناك معاملة قانونية أو غيرها يكون الأجنبي مميزا بصورة كاملة عن المصري ، ومحميا ظهره ، وله احترامه في مصر ، حتى أن بعض كبار المستثمرين يحرص على أن يكون له شركاء أجانب ، لا لقلة مال ، ولا لحاجته لشريك اقتصادي حقيقي ، وإنما لحماية ظهره عند أي احتكاك بالجهاز الإداري والقانوني والسياسي للدولة ، فهي تحترم الأجنبي وتجعل له هيبة ، بينما المصري محتقر ومستباح وسهل جدا سحقه بدون أي ثمن ، وبدون شك أتت حادثة وفاة أو استشهاد المخرج الشاب الواعد محمد رمضان وثلاثة مواطنين معه نسأل الله أن يتقبلهم في الشهداء أتت لتعطي دليلا جديدا على رخص المصري في بلده ، هم يمنون عليه باعتباره إنسانا ، وإن كان بعض الحيوانات في بلدان أخرى تعيش أفضل منه . سافر محمد رمضان مع عشرة من أصدقائه لقضاء رحلة سياحية في سانت كاترين ، كتسلية للنفس في الثلوج التي تكاثفت بفعل الشتاء القارص هناك ، وباختصار ، خرجوا في رحلة جبلية هناك مع دليل من البدو ، ففاجأتهم عاصفة ثلجية وضلوا طريقهم وفقدوا الاتصال مع العالم ، بما يؤشر إلى أنهم يواجهون خطر الموت المحدق والحقيقي في ظل هذه العاصفة الشديدة ، ثلاثة منهم كانوا قد أعياهم الطريق قبل بدء الرحلة فعادوا ، وأربعة منهم كان حظهم أن قابلهم بعض البدو الذين سمعوا عن فقدان أثر تلك المجموعة فحملوهم ونقلوهم إلى أقرب نقطة للجيش حيث تم نقلهم إلى مستشفى سانت كاترين ، والأربعة الباقون انقطعت أخبارهم ، وكتب أهلهم وأصدقاؤهم استغاثات بالسلطة ، بالشرطة والجيش والمحافظ والنجدة ، وقدموا بلاغات ، فلم يجدوا آذانا ولا استمع لصرخات استغاثتهم بني آدم واحد ، تحججوا بأن الطائرات غير متوفرة ولما لجأوا إلى شركات خاصة قالوا أن حجز الطائرة يكون قبلها بثلاثة أيام ، أحد المسؤولين الذين استغاثوا بهم سألهم : هل هناك معكم أي أجنبي ؟ فقالوا : لا ، كلهم مصريون ، فربما اكتفى بقوله لهم : شدوا حيلكم . أخيرا بعد أيام تفضل المشير السيسي بإرسال طائرة إلى سانت كاترين ، ليس لإنقاذ الأربعة ، وإنما لنقل جثثهم إلى ذويهم في القاهرة ، فقد ماتوا من البرد بعد أن تجمدت الدماء في عروقهم ، ولأن الطائرات التي تلهو في سماء القاهرة على أنغام "تسلم الأيادي" في حفلات الشو السياسي ، وتنقل الفنانين والخواجات عند أي عارض صحي أو خطر من أي مكان أغلى من أن توجه لإنقاذ حياة شبان مصريين يتعرضون للموت ، والقيادات والوزراء والأجهزة الأمنية التي تنتفض فور علمهم بأن هناك "أجانب" تعرضوا لمشكلة أو خطر لا يوجد أي مبرر أخلاقي أو إنساني أو وطني كي يتحركوا لإنقاذ عدة مصريين سيموتون خلال ساعات إن لم يتدخلوا لإنقاذهم ، فهؤلاء ربما لا يعترفون بالجنسية المصرية كمسوغ كاف للتدخل الإنساني لإنقاذ حياة بشر ، ربما كانت كل أزمتك وورطتك يا محمد رمضان أنت وأصحابك أنكم أحسنتم الظن في وطنكم ، وتصورتم أنكم في بلاد المصريين .