كان نجاح زيارتى سببا فى قرار الجريدة بمسئوليتى عن تغطية الحروب ومناطق الصراعات الدولية . كان يوم 19 نوفمبر 1995 عصيبا علينا -نحن جميع المصريين- حيث تم تدمير سفارتنا بالعاصمة الباكستانيةإسلام أباد واستشهاد عدد من أطقمها بواسطة تنظيم الجهاد، وكما جاء على لسان أيمن الظواهرى ... وتم تكليفى بالسفر إلى باكستان لتغطية الحادث. كان مبرر الجريمة -كما أوضح بيان التنظيم- هو الانتقام من السفارة بحجة أن أعضاءها يجمعون معلومات عن أعضاء التنظيم هناك لصالح الأجهزة الأمنية المصرية. تأشيرة ليلية كان الوقت متأخرا، ورغم ذلك نصحَنا أمن السفارة الباكستانية بالتوجه لمنزل السفير طبقًا لتعليماته، والذى استقبلنا وأصدر تأشيرة السفر فى الحال. فى اليوم المحدد استقللتُ الطائرة ووصلت إلى مطار العاصمة «كراتشى» القديم. وقفت فى طابور طويل من كل الجنسيات يؤدى الى مكتب الجوازات، ولدى وصولى أمام ضابط الجوازات وبمجرد الاطلاع على صفحات جوازى فوجئت به ينتفض فى مكانه ويرفع سماعة التليفون ليهمس ببعض الكلمات ليأتى فى اعقابها ضابط وبعض الأفراد الذين أمرهم بحمل حقائبى وقد تسلم جوازى من زميله دون ختمه قائلا لى أكثر من مرة: (sorry sir). لم أستوعب ما يجرى معتقدا أنه تم القبض علىَّ بنوع من الاشتباه ولكن دخولنا قاعة كبار الزوار مع حفاوة الاستقبال فيها خاصة أن الضابط الباكستانى أخرج ختما وختم به جوازى قائلا انهم لم يتلقوا أية معلومات بشأن قدومى.. لم أفهم حقيقة ما يدور الا بعدما أطلعت سفيرنا هناك على الجواز ليكتشف أن تأشيرتى مختومة بأننى ضيف فوق العادة. كان المفترض أن يتم ابلاغى من شركة الطيران بأنه سيكون فى استقبالى بمطار كراتشى موظف بمكتبها بالمطار لتولى تسكينى بفندق الترانزيت لحين نقلى الى مطار «روالبندى» مطار العاصمة إسلام أباد وهى الرحلة التى تبدأ بعد 12 ساعة ولكن تقصيرا حدث فقضيت الوقت فى صالة الرحلات الداخلية.. بعد منتصف الليل أقلعت الرحلة لنهبط بعد ساعتين فى مطار»روالبندى». شعرت بمجرد مغادرة الطائرة وكأنى سأتجمد من البرد.. كان كل تفكيرى بينما أهبط سلالم الطائرة كيف أغادر المطار وأى فندق ساجد إقامتى فيه... ولكن بمجرد هبوطى لأرض المطار لاحظت وجود سيارة موديل حديث 4×4 وبجوارها شخصان أحدهما يحمل لافتة مكتوبة بالانجليزية، لم أعرهما اهتماما اعتيادا منى رؤية هذا المشهد فى المطارات لدى استقبال شخصية مهمة وذات حيثية.. ولكن فجأة استرعى اهتمامى نداء أحدهما باسمى قائلا: «أستاذ حسين عبد القادر». وعندما تطلعت اليهما وجدت أن اسمى هو المكتوب على اللافتة.. انطلقت اليهما رافعا يدى (أنا حسين) ليرحب بى احدهما مقدما نفسه بأنه المستشار أحمد سمير مسئول المكتب الاعلامى والثقافى المصرى هنا. عرفته على الفور من خلال تلك التقارير التليفزيونية عن حادث السفارة يوميا، وكان برفقته المدير الادارى للمكتب.. أخبرنى أن هناك تعليمات من مكتب رئيس هيئة الاستعلامات باستقبالى وتسهيل مهمتى من خلال برنامج المهمة التى سلمتها بنفسى للهيئة بالقاهرة.. انطلقنا والوقت يقترب من الفجر وسط البرد القارس الى أحد مطاعم المشويات «تكا» الاصلية بالنكهة الباكستانية ليخبرونى أنه نظرا للمخاطر الأمنية القائمة فالأفضل لى المبيت بصحبة المدير الادارى المصرى لحين الصباح واختيار فندق إقامتى. أشجار البانجو تزين حديقة الدبلوماسى! أيقظنى فى الصباح مضيفى لننطلق إلى منزل المستشار الثقافى لتناول فطورنا معا فى حديقة ڤيللته.. عندما وصلنا بهرنى المشهد الرائع حيث كل أشجار الفاكهة بداية من الموز والبرتقال وغيرها.. ولكن لفتت نظرى تلك الشجيرات المتناثرة الشبيهة بالملوخية والتى اعرفها جيدا بحكم تخصصى فى الحوادث وتغطية إدارة مكافحة المخدرات.. اقتربت منها.. شممت رائحتها.. آه.. إنها القنب الهندى أو اسمها بالمصرى «البانجو».. لاحظ صاحب الفيللا تصرفى فحكيت له القصة ليخبرنى أنه أمر طبيعى جدا ظهور هذه النباتات عشوائيا فى كل مكان هنا.. انطلقنا للمكتب الثقافى المصرى عبارة عن مبنى من طابقين وداخله تتجمع عشرات الصحف الباكستانية التى تتم ترجمة ما بها من اخبار تهم العلاقات المصرية الباكستانية ثم ترسل نسخة منها للقاهرة والأخرى للسفير المصرى.. وحصلت على نسخ عدة تقارير لقراءتها لمتابعة مجريات الأحداث.. السفير على باب السفارة فى اليوم التالى توجهت لمقر السفارة. كان المشهد يدمى القلب، فالمبانى تحولت الى أنقاض بجوار البوابة الضخمة المنهارة، وفى داخل كشك كبير جلس رجل وقور مرتديا نظارته الطبية.. إنه د. نعمان جلال السفير المصرى والذى أدركت من تعاملى معه أنه واحد من أفضل من عرفتهم الدبلوماسية المصرية.. السفير جلس على البوابة بينما العمل يجرى على قدم وساق بالداخل لرفع الأنقاض وتهيئة ما يصلح للانتقال اليه.. علاقات السفير صاحب الشخصية القوية والمنفتحة جعلت سفراء عدة دول يصرون على استضافته هو وطاقم السفارة بسفارات بلادهم ولكنه اعتذر فى شموخ ليدير عمله من جوار الأنقاض. أمضيت عدة أيام معه.. كان متفهما لأهمية دور الصحافة.. لم يبخل بأى دعم لعملى سواء بمعلومات أو مع التواصل مع كبار المسئولين لإتمام لقاءاتى بهم.. كان بسيطا غير متكلف.. دعونى للغداء ومعنا السيدة زوجته، حضر لمكان سكنى، ورغم الظروف الخطيرة كان يقود سيارته دون حراسة مرتديا بدلة جينز... تابعت التحقيقات التى كانت تجريها كل الأجهزة الأمنية.. وكذلك إعادة تأهيل مبانى السفارة وأطقمها للعمل والذين كانوا يتمتعون بقوة جأش رغم هول ما تعرضوا له... لم ادرك ما قيل لى عن اختراق وانتشار التنظيمات الإرهابية المصرية وعلى رأسها تنظيم الجهاد الا بعد ما تعرضت له.. اتفقت مع السفير على السفر إلى إقليم بيشاور لرصد أنشطة ما تبقى من معسكرات تدريب التنظيمات بها.. بعد جولاتى بأحياء بيشاور وطبقا للاتفاق مع السفير اتصلت به لأخبره ببرنامج العمل.. فوجئت به يأمرنى بقطع إقامتى وعدم البقاء فى فندقى والعودة فورا للعاصمة دون نقاش. وفى الظهيرة كنت اجلس إليه ليدفع لى بجريدة مسائية تحمل خبر انفجار الفندق الذى كان مقر المبيت به، ليخبرنى السفير بتلقيه تقريرا أمنيا بقرار التنظيم الإرهابى بتفجير حجرة فندقى بعد رصدهم وصولى إلى بيشاور واعتقادهم أننى عنصر أمن مصرى! مع بينظير بوتو قبل انتهاء مهمتى وعودتى للقاهرة بثلاثة أيام أخبرنى السفير بأن بينظير بوتو رئيسة وزراء باكستان ستزور السفارة غدا بعد عودتها من جولتها الانتخابية بإقليم البنجاب. فى الصباح حضرت بينظير بوتو وقدمت العزاء فى شهداء التفجير ووعدت بإجراءات أمن مشددة، وبينما تتهيأ للرحيل فوجئت بالسفير يمسك بيدى ويقدمنى إليها باعتبارى ممثلا ل»أخبار اليوم» أوسع صحف الشرق الأوسط انتشارا وأخبره بأنه مطلوب منى الانتظار 6 أشهر لإجراء حوار معها.. تحدثت إلى وزير إعلامها لتقول لى بعدها إنها ستتجاوز البروتوكول ويمكننى لقاؤها بعد أسبوعين.. وبالطبع كان مستحيلا البقاء وتذكرة السفر بعد 3 أيام .. وكان البديل -وهو ما حدث- أن أترك أسئلتى وستتولى الإجابة عنها وإرسالها لى عبر سفارتهم بالقاهرة.. وصلت إجابات الحوار بالفعل بعد شهر وتم نشره والذى أثار ضجة فى الصحافة العالمية حتى إن الوكالة الفرنسية نشرته بالكامل، فقد تضمَّن -لأول مرة- اعترافا رسميا على أعلى مستوى بأن باكستان تمتلك برنامجا نوويا.