تعيش الساحة السياسية الإسبانية أزمة خطيرة إثر تفاقم قضايا الفساد التي طالت الحزب الشعبي الحاكم واقتربت بقوة من رئيس الحكومة ماريانو راخوي بعد أن تم الكشف مؤخرا عن وثائق سرية تكشف تورط راخوي في قضية صندوق الرشاوي، والتي يتهم فيها أمين الخزينة السابق للحزب لويس بارثيناس. ففي التاسع من يوليو الجاري نشرت صحيفة "الموندو" الإسبانية وثائق خطية تكشف تلقي ماريانو راخوي رواتب غير مصرح عنها خلال أعوام 1997 و1998 و1999 وذلك عندما كان وزيرا في حكومة خوسيه ماريا أزنار. كما كشفت الوثيقة عن معلومات جديدة حول تبادل رسائل الكترونية توضح أن راخوي طلب من أمين الخزينة السابق في الحزب الشعبي لويس بارثيناس أن ينفي وجود حسابات سرية ورواتب إضافية. وخضع بارثيناس، المعتقل احترازيا منذ 17 يونيو الماضي في سجن سوتو ديل ريال قرب العاصمة مدريد، للاستجواب أمام القاضي الاسبوع الماضي واعترف بأنه أدار حسابا سريا موازيا للحزب، مما أدى إلى تزايد حدة الغضب إزاء رئيس الحكومة راخوي والذي تقترب منه الشبهات يوما تلو الآخر. ونتيجة لذلك تزايدت دعوات المعارضة الاشتراكية بضرورة استقالة راخوي واختيار رئيس وزراء جديد من الحزب الشعبي، الذي يتمتع بالأغلبية في البرلمان. كما تزايدت المظاهرات الاحتجاجية ضد رئيس الحكومة والتي كان آخرها أول أمس عندما اشتبكت قوات الشرطة الإسبانية مع متظاهرين مناهضين للحكومة وسط العاصمة مدريد، مما أدى إلى إصابة عدد من الأشخاص. وانتشرت تلك الاحتجاجات في جميع المدن الرئيسية في البلاد وأخذت ترفع شعارات "لا للفساد" و" ارحل وقدم استقالتك أو لتذهب إلى السجن". وفي مواجهة ذلك وصل راخوي نفيه للاتهامات الموجهة إليه بشكل قاطع وأكد أنها عارية تماما من الصحة كما رفض الدعوات المطالبة باستقالته مؤكدا أن "دولة القانون" لا تخضع للابتزاز وأنه "سيكمل فترة ولايته التي منحها الإسبان إياها". وتفجرت أزمة صندوق الرشاوي في يناير الماضي عندما نشرت إحدى الصحف الإسبانية قيام شركات عقارات بتقديم أموال للحزب الشعبي للحصول على صفقات سواء مع الحكومة المركزية عندما يكون الحزب في السلطة، أو على مستوى حكومات الحكم الذاتي في مناطق البلاد التي يرأسها الحزب الشعبي. كما أظهرت الوثائق أن راخوي كان من بين المستفيدين من تلك الصفقات وأنه حصل على حوالي 25000 يورو سنويا لمدة 11 عاما. وأصبحت قضايا الفساد من أكثر القضايا التي تشغل المواطن الإسباني خلال السنوات الأخيرة بل إنها تشكل خطورة على استقرار المجتمع لاسيما في ظل تزايد تلك القضايا التي تلطخ سمعة رجال السياسة وتطعن في مصداقيتهم، إضافة إلى أجواء الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها البلاد والارتفاع الهائل في معدلات البطالة. ولم تقتصر قضايا الفساد التي يعاني منها الإسبان على رئيس الوزراء راخوي وأفراد حزبه بل إنها امتدت أيضا لتشمل أفراد أسرة العائلة المالكة حيث خضع إنياكي أوندنغرين، زوج ابنة الملك خوان كارلوس، للتحقيق من قبل القضاء الإسباني خلال الأشهر الماضية وذلك بعد اتهامه باختلاس أموال من المال العام تبلغ ملايين من اليورو، من خلال تأسيس معهد غير ربحي واستغلال لقبه كدوق وصهر للملك للحصول على امتيازات، علاوة على قيامه بتوظيف شركات في عمليات التهرب الضريبي وهي شركات تقاسمه في ملكيتها بالنصف زوجته الأميرة كريستينا والتي اقتربت منها الإجراءات القضائية ولم يحفظها سوى وضعها العائلي والحصانة المعنوية التي تتمتع بها الأسرة المالكة. وعلى أثر تلك القضية، طبق الملك خوان كارلوس مبدأ الشفافية على نفسه وقرر نشر الحسابات المالية للقصر في موقع إلكتروني أتاح للرأي العام إمكانية التعرف على الميزانية المرصودة للملك وأسرته وأوجه صرفها بالتدقيق، على أن تخضع لاحقا للمراجعة المحاسباتية. وأظهر آخر استطلاعات الرأي التي أجراها مركز البحوث الاجتماعية الإسباني خلال النصف الأول من شهر يونيو الماضي أن 80.5% من المواطنين الإسبان يعتبرون البطالة من أهم المشكلات التي تعانيها إسبانيا في الوقت الراهن يليها قضايا الفساد والاحتيال الضريبي ثم تأتي في المركز الثالث المشكلات الاقتصادية التي تعاني منها البلاد منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية في منطقة اليورو منذ عام 2008. ويكشف ماسبق أن مستوى التسامح مع الفساد من قبل المجتمع الإسباني قد وصل إلى حده الأقصى فلا يمكن للشعب أن يتسامح بعد اليوم مع هذه الفضائح، لاسيما وأنها تأتي في ظل ارتفاع هائل في معدلات البطالة وغضب شعبي من السياسات التقشفية التي تنتهجها الحكومة والتي لم تنجح حتى الآن في إخراج البلاد من أزمتها الخانقة ولم تساهم في تحسين مستوى معيشة المواطنين بل إنها أدت إلى زيادة معدلات الهجرة إلى الخارج بحثا عن فرص عمل ومستويات معيشية أفضل. وفي ضوء ذلك لا يبدي المراقبون تفاؤلا إزاء قدرة رئيس الوزراء الإسباني ماريانو راخوي على الصمود في مواجهة هذه التهم المتوالية، فهو يستمر في المقاومة و يواصل نفيه لكل الإشاعات والاتهامات معتقدا أن الزمن كفيل بحل هذه المشاكل وجعلها في طي النسيان. غير أن الواقع يثبت العكس فمع مرور الوقت وكما نرى في كل يوم تنكشف معلومات جديدة بخصوص هذه الفضيحة وهو الأمر الذي يخفض من شعبية راخوي ويقلل من مصداقيته أمام الشعب كزعيم سياسي .وبالتالي يتوقع المراقبون عدم استمرار راخوي طويلا في منصبه وأن هذه الأزمة ستنتهي إما بنجاح المعارضة في الحصول على أصوات كافية وسحب الثقة من الحكومة أو قيام الحزب الحاكم باقتراح مرشحا جديدا بدلا من راخوي.